ينتظر بعضهم عشرات السنين حتى يحقق رغبته في قيادة القطار هكذا هو حال سائقي القطارات يعملون في مهنة لوائحها بالصرامة كما أن حركة القاطرات في السودان بنهجها الحالي الذي يتسم بالبطء يتطلب قدراً من الصبر والمثابرة كما أن الوصول إلى مرحلة قيادة القطار تتطلب قدراً من المتطلبات حتى إن بعضهم وصل سن المعاش دون أن يقود قطار حيث ينتظر السائق الكثير من العقبات حتى يستطيع قيادة القطار، فهناك العديد من الخطوات إذ أول ما يعين السائق يبدأ بتلميذ سواق حيث يتم تعريفه على أجزاء الوابور ويقوم بتنظيفه ومن ثم يترقى إلى مساعد سائق حيث يقوم بمراقبة المقطورات وعلى حسب التقارير التي تُكتب في السائق وأدائه وحسن عملة يترقى إلى مساعد سواق سفري ثم إلى سائق وردية لتكون مهمته ترتيب المحطات وتنظيمها وإحضار الخالف من المقطورات حتى يترقى إلى سائق سفري ويكون وقتها قد أكمل عدة سنوات عبد العظيم من السائقين الحديثين وهو من أبناء شندي الذين استوطنوا في عطبرة عين كسائق في التسعينيات ولم يقد قطارًا إلا قبل سنتين حدثنا عن مهنته حيث قال هي في الغالب مهنة جيدة تمنحك بعض الاستقرار العملي وتتعرف من خلالها على المناطق ولكنها في ذات الوقت تبعدك عن أهلك وأحبابك بكثرة التجوال والسفر فتكون في غربة عنهم مما يقلل من اجتماعيات السائق، وحتى الأسرة بسبب الترحال الكثير تتعود على حل مشكلاتها من دوننا لأن الرحلة الواحدة قد تستغرق ثمانية أيام للقصيرة وخمسة عشر يوماً للطويلة ويرجع عبد العظيم بذاكرته قليلاً ليروي لنا بعض المواقف التي مر بها وهو يقود القطار حيث قال كنت في إحدى الرحلات إلى إحدى الولايات وفي أثناء الطريق نبهني المساعد إلى وجود عربة تسير في خطي القضيب وقال إنه لن يستطيع الابتعاد لعدم وجود منفذ وفعلاً تبين لي أن الطريق في مكان عالٍ وعلى جانبيه ترعه فعملت جاهداً على إيقاف القطار وكان وقتها يسير بسرعة كبيرة ولكن بحمد الله توقفت على بعد ياردة من العربة. ويقول «ع س» الإدارة لم توافق نظام العمل بالمشاهرة ولكن وبدون أسباب واضحة تراجعت عن قرارها وعينت سائقين ليست في حاجة إليهم فحصل نوع من التكدس وأسهم ذلك في أن ينتظر السائق في الميز المخصص للسائقين خمسة عشر يوماً ليعمل إضافة إلى أن هناك بعض السائقين الذين تعاقدوا معهم وصلوا إلى عمر كبير ولا يستطيعون العمل مضيفاً أن كل الوابورات التي تعمل حاليًا سبعة، ثلاثة منها تعمل بنسبة «20%». ويروي العم حسين سليمان وهو من السائقين الذين قضوا عمراً طويلاً في قيادة القطارات بدايته مع تلك المهنة قائلاً ترجع جذوري إلى وادي حلفا وبسبب عمل الوالد في تلك المهنة انتقلنا إلى مدينة كوستي، وأذكر أنني التحقت بالهيئة في الستينيات وأتذكر جيدًا أول مرتب صرفته كان ثمانية جنيهات فمنذ صغري تجد قيادة القطارات في قلبي مكانة خاصة بسبب الوالد وقد قمت بأول رحلة في مطلع الثمانينيات من الخرطوم للأبيض حيث كنت في قمة السعادة لأنني انتظرت هذه اللحظات طويلاً ومهنة القيادة بنسبة لي سياحة في المقام الأول قبل أن تكون عملاً وقد ساهمت تلك الرحلات في كثير من التمازج والانصهار بين أبناء الشعب السوداني، فأنا من وادي حلفا وصلت إلى أقصى الجنوب آنذاك ولي أصدقاء من جميع أنحاء السودان لا تزال تربطني بهم علاقة قوية وقال: في الماضي كان الفرد عندما يتم تعيينه في هيئة السكك الحديد يتمتع بالكثير من الخدمات بل كانت تلك المهنة تمثل حلماً للشباب فتجد مساكن «السواقين» في كل المدن في السودان وبيوت السائقين والعمال مشهورة وكذلك كانت النقابات مقسمة على حسب العمل فهناك نقابة خاصة بالسائقين وأخرى بالفنيين والمساعدين مما يساعد العاملين على التواصل مع نقاباتهم وفي معالجة مشكلاتهم من قرب، أما الآن فقد أصبحت جميع النقابات في مظلة واحدة لتتسع دائرتها وتجعلها تبتعد عن العاملين وكذلك لم يعد هناك سكن مخصص كما كان في السابق، فإذا تم نقلك الى إحدى المدن في الولايات لا يوفر لك سكن إلا إذا كان من نُقلت إلى مكانه له سكن لتحل محله في العمل والسكن، وروى «ع» بعض المواقف الطريفة التي مرت عليه خلال مسيرته الطويلة، قال: في إحدى المرات كان يقود قطاراً وفي محطة ود عشانا في كوستي وجد زميلاً له وصديقًا في نفس الوقت كان يعمل في المحطة وتصادف أن تكون زوجته تعاني من ألم المخاض وكان ينتظر قطار الركاب فطلب مني أن أوصلها إلى مستششفى أم روابة فقمت بدوري بتفكيك أجزاء المقطورات وذهبنا بالمقدمة ولكن بسبب الاهتزاز والتعرجات في الطريق والسرعة أنجبت المرأة في القطار طبيعياً بعد أن كان مقرراً لها إجراء عملية قيصرية، وهكذا كان الوضع في السابق، أما الآن فقد تبدل الوضع كثيراً وضاعت معه تلك المودة والترابط بين العاملين. ويقول عماد الذي له ثلاثون عاماً في السكة حديد عمل منها ستة عشر عامًا كسائق قال إن مهنة قيادة القطارات من المهن التي تحتاج إلى الصبر والنفس الطويل لأن السائق يأخذ وقتاً طويلاً حتى يصل إلى مبتغاه وهناك من يصل للمعاش دون أن يقود قطاراً وهذا يعتمد وبشكل أساسي على العمر عند التعيين وأيضًا على التقارير التي تُرفع إلى الإدارة وأيضًا في حال وجود خانة شاغرة بسبب إحالة أحدهم للمعاش تقوم الإدارة بتعيين آخرين لملء تلك الخانة بترقية من هم أدنى، وأضاف أنه لم يشعر بأي رهبة عند قيامه بأول رحلة إلى سنار وذلك للفترة التي قضاها في المساعدة التي أسهمت في إزالة الرهبة والخوف، وقال: تواجه السائق بعض الصعوبات في طبيعة المنطقة التي يعمل بها مثل وعورة الطرق أو المنحدرات ولكن بعدها يتأقلم على الوضع ومن الطرائف التي مرت به قال: كنت بمدينة الشجرة وكانت هناك مركبة تقف في طريق القطار تمامًا ولم يكن السائق يلاحظ قدوم القطار في اتجاهه فقمت بإطلاق الصفارة ولكنه لم يحرك ساكنًا ووقتها استحال عليَّ التوقف فنزل أحد الشباب من إحدى العربات وفي حركة لم أشاهدها إلا في الأفلام الهندية أخرج الرجل من العربة وبعدها اتضح أن الرجل لا يسمع جيدًا والموقف الثاني كان قرب البوابة العسكرية التابعة للقيادة العامة عند الساعة الثانية صباحاً جاءت عربة أمجاد مسرعة واصطدمت بالجزء الأمامي للبابور ولم نلاحظ أنها اصطدمت بنا وكنا نظنها قد مرَّت بسلام ولكن لأن السيارة خفيفة التصق الصدام بالقطار دون أن نشعر ونبهنا أحد رجال الشرطة إلى ذلك فوجدنا بها عروسين وقد دخلت العروسة في حالة هستيرية من الصدمة وبحمد الله لم يصب أحد بأذى. مهما تطورت وسائل النقل تظل السكة حديد الناقل الوطني الذي لا غنى عنه ويظل السائقون يقضون السنين حتى يأتي دورهم في قيادة القطار وهم يتمنون أن تعود السكة حديد إلى سابق عهدها قوية تجوب أنحاء السودان وأن تعمل الخطوط المتوقفة ويعود المواطنون للسفر عبرها.