ذكرت في المقال السابق تاريخ تشييد السكة الحديد وأهميتها الإستراتيجية في النقل مدنيًا كان أم عسكرياً، واليوم أود أن أورد مزايا السكة الحديد الاقتصادية، فالسكة الحديد تخلق فرصاً للعمل ليس في داخلها فحسب، بل وخارجها، فالتاجر والترزي والبائع والمزارع والصانع كل هؤلاء وأكثر تحركهم حركة القطار، ففي عطبرة مركز السكة الحديد سابقاً كان جميع من ذكرت يستفيدون فائدة مباشرة من السكة الحديد والتاجر يبيع سلعة من أي صنف للسكة الحديد، والصانع يصنع فوانيس الإشارة والكثير من الأدوات التي يمكن تصنيعها محلياً، وقد استغنت السكة الحديد عن استيراد كثير من المعدات التي تصنع في المنطقة الصناعية في عطبرة!.. أما بالنسبة للترزي فإنه يقوم بحياكة الملابس للعمال والموظفين والمفتشين والمهندسين وغيرهم وعلى هذه الحرفة عاش الكثيرون وعائلاتهم، أما في المحطات فتجد المواطنين يبيعون منتجاتهم الزراعية من فواكه وخضار مع المصنوعات اليدوية المختلفة، وحتى باعة الشاي والجبنة يجدون دخلاً من مرور القطار بمناطقهم، مئات المحطات وعشرات المدن التي يمر بها الخط الحديدي يستفيد سكانها اقتصادياً من السكة الحديد رغم عدم وجود صلة مباشرة بها، بهذا انتعش اقتصاد الأسرة وهذا أمر غاية في الأهمية، وانتعاش اقتصاد الأسرة يصب في انتعاش الاقتصاد القومي!!.. توقف القطار، وجراء ذلك توقف دخل عشرات الآلاف بل مئات الآلاف من الأسر في المدن والقرى التي يمر بها الخط الحديدي، بل قل الإنتاج الزراعي فالقطار كان أحد المصادر لتوزيع هذا الإنتاج سواء للأسرة بما تبيع للركاب أو بالنقل إلى بقية أرجاء السودان والخارج، وهذا سبب أساسي في تكدس المدن وخاصة العاصمة بالمواطنين الذين فقدوا مصدر توزيع منتجاتهم الذي هو السكة الحديد وامتلأت المدن بالمهن الهامشية التي لا تدر على الاقتصاد القومي نفعاً!!.. بجانب كلما ذكرت تمثل السكة الحديد رابطاً اقتصادياً مهماً، فالتواصل بين ولايات السودان وتبادل منتجاتها يعود بفائدة مادية كبيرة، وهذا التواصل الاقتصادي يسهل كثيراً من عمليات تصدير المنتجات إلى الخارج، فتجد تجار محصول معين مرتبطين ببعضهم البعض في كل أنحاء السودان ولم تكن الأسعار لترتفع بسبب النقل، وكان المنتج أكثر دخلاً منه الآن بعد توقف الناقل الرئيس!!.. وكان السودان يعج بالأسواق الشهيرة كسوق الدامر مثلاً وكانت السلع تأتي من أقصى الشمال والشرق والغرب والجنوب ينقلها القطار وتحدث عمليات تبادل السلع، المواشي تأتي من الشرق والتمور من الشمال والذرة من القضارف وكل المنتجات تجدها في هذا السوق، الذي يشبه إلى حد كبير السوق الأوربية المشتركة التي تم إنشاؤها في ستينيات القرن الماضي بينما هذه الأسواق في السودان برزت من قبل ذلك بكثير وساعد في انتعاشها وجود السكة الحديد!.. وطالما كانت هناك منفعة اقتصادية بين أنحاء البلاد فمن البديهي أن تكون هناك رابطة سياسية وهذا ما حدث بالفعل، فأجزاء أي دولة تجد منفعة اقتصادية مع بعضها البعض تجدها قد ارتبطت سياسياً وتحافظ على وجودها ككيان موحد، فالمحافظة على الكيان الموحد بسبب المنفعة الاقتصادية، وهذا ما لم يدر بخلد الأنظمة التي توالت على السودان منذ استقلاله وحتى الآن!!.. وربط بلاد كالسودان الشاسع لا يمكن إلا بوسيلة واحدة هي السكة الحديد، والسكة الحديد تمثل عدة روابط كما ذكرت اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية، وإذا تحدّثنا عن الرابطة الاجتماعية، لا نبالغ إن قلنا إن السكة الحديد كانت الأساس في هذه الرابطة، فهي التي فتحت الطريق لانتقال المواطنين من منطقة لأخرى فتعارفت قبائل الشرق مع الوسط والغرب والشرق وحتى الجنوب وتزاوجت فيما بينها وفتحت آفاقاً واسعة للمواطنين لتغيير نمط عيشهم وظهرت الكثير من الأسر المختلطة، وانتقلت الثقافات وتمازجت فظهرت ثقافات أكثر تطوراً من سابقاتها، فكم من علاقة أسرية اختلطت فيها الأعراق تمت في لقاء غير مرتب له في قمرة عربة سكة حديد؟!.. عند السفر بالقطار وفي المحطات النائية كان سؤال السكان هناك من المسافرين جريدة أو مجلة ونادراً ما يسألون عن شيء خلاف ذلك وهذه عملية نقل للثقافة يقوم بها القطار، هذا إلى جانب التأثير الثقافي المهم الذي يجعل الشعراء والأدباء ينظمون القصيد والروايات التي مصدر إلهامها القطار!!.. قبل أكثر من عشرين عاماً اقترحت اقتراحاً وجد الترحيب من كل الخبراء والاقتصاديين ولكنه لم يجد التجاوب من النظام الحاكم، اقترحت أن تقف السكة الحديد على رجليها وتمتد إلى غرب إفريقيا ومنطقة البحيرات والقرن الإفريقي، وعددت الفائدة من هذا فالخط الحديدي يمثل فائدة اقتصادية عظمى بالنسبة لتلك الدول ويخلق ترابطاً بين شعوب تلك الدولة وأن الحل لأزمات إفريقيا وتلك المناطق التي ذكرت هو حل اقتصادي إقليمي، وأن القبائل في غرب وجنوب وشرق السودان لها امتدادات في كل تلك المناطق لذلك يصعب حل مشكلة دارفور مثلاً بمعزل عن تشاد وإفريقيا الوسطى وغيرها من دول الجوار، فالحل الاقتصادي هو الأمثل، والسكة الحديد هي العامل الأساسي لهذا الحل، فهي تنمي الاقتصاد وتربط الشعوب ببعضها البعض اجتماعياً وثقافياً، وبهذا تقوى الرابطة السياسية، إذ لا يعقل أن تقوم دولة بإيواء أو رعاية فصيل متمرد ضد السودان الذي ارتبط به اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً بواسطة السكة الحديد التي خلقت وظائف على الصعيد الرسمي ونمت اقتصاد الأسرة على الصعيد الاجتماعي!!.. عجبت وأسفت وحزنت عندما علمت أن وفداً وزارياً سيزور روسيا الفيدرالية وأن هذا الوفد يضمّ كثيراً من التخصصات في التعدين وغيرها وأن الوفد لا يضم إدارة السكة الحديد خامات المعادن كيف سيتم نقلها إن لم تنقلها السكة الحديد وهذه الخامات تقدر بملايين الأطنان، وهل الطرق البرية قادرة على تحمل هذه الأوزان وكم ستكون تكلفة نقل هذه الأوزان بوسائل النقل والطرق البرية المتاحة؟!!. إن أول سؤال يدور في ذهن المستثمر هو كيف الوصول إلى منطقة الإنتاج وكيف يتم نقل المنتج، فاستخراج الخام لا يمثل عقبة بالنسبة له، لكن العقبة تتمثّل في نقل الإنتاج إلى السوق العالمية، فإن كان الوصول إليه ونقله مكلفاً فإن وبدون شك سيعزف عن الاستثمار؟! والحديث عن السكة الحديد يطول ويطول، ونواصل فيه إن شاء الله!!..