إن القائم بالأعمال الأمريكي في السودان مستر استافورد، قام بعدة زيارات لبعض شيوخ الطرق الصوفية في أبي حراز وأم ضواً بان والكباشي وود نوباوي وغيرها. وفي الأيام القليلة الماضية سجل زيارة للمركز العام لأنصار السنة، وليس الهدف من هذه الزيارات إجراء حوار بين الأديان لأنه ليس متخصصاً في هذا المجال، وحتى المتخصصين فإن مثل هذه اللقاءات العابرة لا تتيح لهم فعل شيء في شأن له منابره ومراكز بحثه المتخصصة التي تعنى بالحوار بين الحضارات والأديان. وإن زيارات القائم بالأعمال الأمريكي أضحت مثار تساؤلات وشك وريبة، وربما تكون مجرد غطاء وإيحاء خادع بأن أمريكا تسعى لإجراء مفاوضات وحوار مع السودان بروح جديدة، مع إنها تخفي خناجرها المسمومة تحت ثيابها. وفي عهود سلفت وأيام مضت حدثت زيارات مماثلة وفق ترتيبات عادية ولم تثر أي غبار أو شكوك حولها، وعلي سبيل المثال فإن نيكسون عندما كان نائباً للرئيس الأمريكي آيزنهاور زار السودان مبشراً بمشروع آيزنهاور وبالمعونة الأمريكية التي اختلف حولها الحزبان الحاكمان المؤتلفان وقتئذ، وسجل نيكسون زيارتين للقطبين الجليلين السيد عبد الرحمن المهدي والسيد علي الميرغني، وكانا راعيين للحزبين المؤتلفين «المختلفين». وكتب الأستاذ محمد عثمان يس أول وكيل لوزارة الخارجية بعد الاستقلال أنه صحب همرشولد سكرتير عام الأممالمتحدة عند زيارته للسيد علي الميرغني بمنزله، وكانت مشكلة الكنغو في أوجها، وذكر الوكيل أن همرشولد كان مندهشاً بعد خروجه لأن السيد علي وافاه بمعلومات غزيرة عن الكنغو، كأنه أحد مواطنيها، وتحدث عن إيرادات الأممالمتحدة من اشتراكات أعضائها وطريقة صرفها بذكر معلومات صحيحة كأنه كان يعمل مديراً للشؤون المالية والإدارية بمقر الأمانة العامة للأمم المتحدة بنيويورك. وأن كل تلك الزيارات وغيرها لم تكن مثار ريبة وشك وتساؤلات لأنها كانت زيارات اجتماعية للتعارف والتحية والمجاملة. وقبل سنوات قليلة نظم مركز «اتجاهات المستقبل» لقاءً بقاعة الصداقة مع القائم بالأعمال الأمريكي وقتئذ وأظن أن اسمه فيرنانديز إن لم تخني الذاكرة، وحضر اللقاء أكثر من مائة من السودانيين، وكان القائم بالأعمال المشار إليه يبدو منشرح الصدر وبروح معنوية عالية، وكان يوزع الابتسامات ذات اليمين وذات اليسار وكأنه في ليلة حفل عرسه، وأعلن أنه سينفتح على السودانيين من مختلف فئاتهم. وبعد مغادرته للسودان ثبت أنه كان ديبلوماسياً خبيثاً ماكراً، إذ أنه انفتح على الآخرين وصادق بعضهم ولكنهم كانوا يحسبون أن ما يدور بين كل منهم «على انفراد» وبينه سيكون حبيس الجدران، ولعله من جانبه حسب أن أحاديثهم التي يرسلها في تقارير بالحقيبة الديبلوماسية لوزارة الخارجية الأمريكية ستظل حبيسة الأضابير وعندما يفرج عنها ويماط اللثام بعد أكثر من ثلاثين عاماً، فلن يتضرر منها هو ولن يتضرر منها أصدقاؤه المزعومون ومصادره المخدوعون، ولكن نشر ويكيليكس للوثائق أزال الغطاء عن المغطى، وكشفت محتويات الرسائل التي كان يبعثها ذلك القائم بالأعمال لوزارة الخارجية الأمريكية أنها كانت تعتمد على «القطيعة والونسة الدقاقة». وقد أفرجت وزارة الخارجية الأمريكية في السنوات القليلة الماضية عن وثائق كثيرة عن السودان منذ الاستقلال وحتى منتصف العهد المايوي، وكانت ترسلها لها سفارتها بالخرطوم. وقدم الأستاذ محمد علي محمد صالح عرضاً لها بصحيفة «السوداني» الغراء وهي وثائق تحوي معلومات سطحية ليست لها قيمة تذكر. وفي عهد الحكم العسكري النوفمبري برئاسة الفريق إبراهيم عبود استفاد النظام من هامش المناورة الذي أتاحته الحرب الباردة بين القطبين العالميين، ووظف الأستاذ أحمد خير وزير الخارجية الدبلوماسية لخدمة التنمية، وسار النظام المايوي في ذات الدرب بعد أن تقلب بين اليسار واليمين وما بينهما، وبدأ أولاً بمد الجسور مع الاتحاد السوفيتي والكتلة الشعبية ثم اتجه غرباً ومد الجسور مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، ولكن فترت علاقته بها بعد إعلانه تطبيق الشريعة الإسلامية فضغطت الإدارة الأمريكية واللوبيات المختلفة على شركة «شيفرون» فأغلقت آبار البترول التي اكتشفتها وامتنعت عن استخراج البترول. وزار بوش الأب نائب الرئيس الأمريكي ريغان السودان في عام 1985م وسعى وفق رؤيتهم لترتيب الأوضاع والاتفاق على البديل الذي يروق لهم بعد سقوط النظام المايوي، وكان على رأس أجندتهم أن يأتي نظام تكون من أولى مهامه إلغاء تطبيق الشريعة الإسلامية أو ما أطلقوا عليه «قوانين سبتمبر»، ومسايرةً لهم أعلن البعض هنا أن قوانين سبتمبر لا تساوي ثمن الحبر الذي كُتبت به، ولكنهم عندما خاضوا الانتخابات في عام 1986م دغدغوا عواطف المواطنين الدينية ورفعوا ذات الشعارات الإسلامية لكسب أصوات الناخبينا وبهذه الإزدواجية كانوا كمستر هايد ودكتور جيكل فأسقطتهم الإدارة الأمريكية من حساباتها ولم تتعاون معهم بعد ذلك ولم تعد تثق فيهم وهي لا تراهن عليهم الآن، ولا ترضى أن يكونوا على رأس المعارضة، ولكنها لا تمانع في أن يكونوا ضمن أجنحتها وأطرافها!! وفي بدايات عهد الإنقاذ كان فيلسوف النظام الحاكم وعرَّابه السابق يُكثر هو وبعض من حوله الحديث عن الديانة الإبراهيمية، وكان مجلس الصداقة الشعبية يولي هذه المسألة اهتماماً كبيراً واستضاف في ساحة كبيرة تجمعاً كبيراً أقيمت فيه صلوات تخللتها دعوات اشترك فيها مسلمون وقساوسة مسيحيون وحاخامات يهود. وبعد ذلك قام بابا الفاتيكان بزيارة مشهورة ومشهودة للسودان. وأقيم المؤتمر الشعبي الإسلامي العربي «سمك لبن تمر هندي» إذ كان يضم إسلاميين وماركسيين وعروبيين ناصرين وبعثيين وأشتاتاً من مختلف الملل والنحل، وكان يضم مسلمين ومسيحيين وتم في تلك الأيام تسليم كارلوس لفرنسا، ولكن كل هذا التودد لم يجد عند أمريكا والغرب آذاناً صاغية، وكانوا يعتبرون السودان مأوى للإرهاب والإرهابيين. وكان رئيس النظام المصري السابق هو أكثر حنقاً وغيظاً بسبب ما يجري في السودان، وكان يحسب أن النظام السوداني قد خرج من طوعه وتمرد على وصايته وتطاول برفعه لشعارات إسلامية وسعيه لرفع خزان الروصيرص وإقامة سدود وخزانات ومصانع للأدوية ....ألخ، وأعلن رفضه التام لأي توجه إسلامي سافر في المنطقة. وفي شهر سبتمبر عام 1994م عقدت ندوة شهيرة بالميدان الشرقي بجامعة الخرطوم خاطبها فيلسوف النظام وعرابه وكان ثائراً وساخراً ولاذعاً وأشار لرئيس النظام المصري السابق دون أن يذكر إسمه وذكر أنه نصب نفسه شرطياً في المنطقة، عاملاً تحت الإدارة الأمريكية لمحاربة ما أسماه الإسلام السياسي، ووصفه بأنه سمسار يقبض قيمة عمولته وثمن عمالته لقاء قيامه بهذه المهمة ورسمه صورة سيئة وقبيحة عن السودان في أمريكا لتضيق عليه الخناق. وقامت حملة خارجية واسعة ضد السودان بإدعاء أنه دولة إرهابية ترعى الإرهابيين وأن حقوق الإنسان مهضومة وظهرت منظمات كثيرة تعمل في هذا المجال، وكانت الممرضة كوكس من غلاة الكارهين لوطننا العزيز والعاملين ضده، وجمعت بدعاويها هذه، أموالاً طائلة، وكان يتحلق حولها بعض السودانيين المستفيدين مالياً منها ومن غيرها وأصبحوا لها «حيراناً» وأتباعاً!! وأمريكا لم تكن راضية عن السودان عند إعلانه «مجرد إعلان» أنه سيتوسع في زراعة القمح وسيمزق فاتورة أي صادر من القمح من الخارج، واعتبرت أن في هذا تطاولاً، وهي تدرك أن السودان يتمتع بكنوز وثروات ضخمة لم تستثمر وأنه بأراضيه الشاسعة الواسعة الصالحة للزراعة ومياهه وتباين مناخاته، يمكن أن يكون من سلال الغذاء في العالم ولو استقر أمنياً وتفجرت كل طاقات بنيه واستثمرت موارده الضخمة الهائلة فإنه سيغدو رقماً إقليمياً وعالمياً ومارداً اقتصادياً جباراً، ولذلك فهي تسعى لإنهاكه بالحروب والاضطرابات، وتريد أن تقسمه لخمس دول، وبعد انفصال الجنوب أضرمت القوى الأجنبية المعادية نار الفتنة في دارفور، وتسعى بشتى السبل لفتح وإقامة معسكرات للنازحين بالمنطقين «النيل الأزرق وجنوب كردفان» ليتسنى لها دعم المتمردين مالياً وعسكرياً دعماً ضخماً يؤدي لإقامة حكم ذاتي في المنطقتين ينتهي في نهاية المطاف بفصل المنطقتين وإقامة دولة منفصلة في كل منهما كما حدث في الجنوب. وهم يتربصون بالشرق لإيقاد نار تمرد فيه يصل لذات النتيجة، وهم يدركون أن العضوية القاعدية لقطاع الشمال يمكن إحصاؤها بسهولة ويسر، وهي لا يمكن الاعتماد عليها في الوصول لكراسي السلطة عن طريق صناديق الاقتراع، ولكنهم يركزون جهدهم ويعتمدون على الأقلية القيادية القابضة والمسيطرة علي المتمردين من حملة السلاح، ولذلك أقاموا ودعموا الجبهة الثورية التي تضم متمردي قطاع الشمال والحركات الدارفورية المتمردة الحاملة للسلاح، وأمريكا ومن يدورون في فلكها لا يعولون كثيراً على أحزاب المعارضة وكل ما يرجونه منها أن تساند قطاع الشمال الذي تسعى تلك القوى الأجنبية أن تفرضه فرضاً على النظام الحاكم، ليقتسم معه السلطة في كل مستوياتها، ليكون خميرة عكننة ومخلب قط لتنفيذ المخطط الأمريكي بوعي منه أم بدون وعي، وأن الجريمة النكراء التي حدثت في منطقة أبو كرشولا وأم روابة وأدانها الشعب السوداني، هي جزء من هذا المخطط الإجرامي الآثم، وفي إطاره تأتي فتنة أبيي بمقتل الأمير كوال دينق مجوك. ونرجو أن يجتاز المسيرية ودينكا نقوك هذه الفتنة بالحكمة والعقل. ونواصل.