لقد كانت الجبهة الثورية تحسب أنها حققت انتصاراً عسكرياً وسياسياً بدخولها في أم كرشولا التي اعتبرها قطاع الشمال منطقة محررة كأنها كانت قبل ذلك مستعمرة، وكانوا يأملون في التمدد أكثر وبسط سيطرتهم ليكون لهم وجود ميداني على الأرض يمكنهم من المساومة والضغط في مفاوضات أديس أبابا، ليرضخ وفد الحكومة المفاوض ويصل معهم لاتفاقية تماثل اتفاقية نيفاشا تتيح لهم اقتسام السلطة، وكانوا يأملون في إحياء اتفاق «نافع عقار» الإطاري الذي تم وأده في مهده، وحاولت القوى الأجنبية الاستعمارية استصدار قرار من مجلس الأمن لإعادة ذلك الاتفاق الإطاري ومن ثم الوصول لصيغة نهائية، ولكن القوات المسلحة الباسلة بمؤازرة القوات النظامية الأخرى والدفاع الشعبي دحرتهم وسحقتهم وأصابتهم بخيبة أمل بعد أن تبددت أحلامهم وأوهامهم المريضة، ولعل أمريكا وإسرائيل ومن يدورون في فلكهم من الدول الأوربية المشاركة في التمويل والدعم المالي واللوجستي قد أصيبوا كلهم بخيبة أمل كبيرة، ولعلهم تأكدوا تماماً أكثر من أي وقت مضى، أن الجيش السوداني المنتصر صعب المكسر ولا يمكن أن تهزمه عصابات المتمردين مهما وجدت من الدعم المفتوح والمساعدة بالمتابعة عبر الأقمار الاصطناعية وغيرها، وأن حرب العصابات لن تسقط النظام الحاكم ولكنها يمكن أن تحدث اضطرابات أمنية، وأن المعارضة أضعف من أن تسير مظاهرة حاشدة دعك من تفجير انتفاضة شعبية. ولو وقف الخواجات مع أنفسهم وقفة مراجعة وتأمل لأدركوا بلا كثير عناء أن أي هجوم يدعمونه ويقوم به المتمردون فإنه يمد في عمر النظام ويكسبه عطف الجماهير «وما لا يقتلني يقويني»، وأن النظام الحاكم يكون أحياناً في حالة أزمة تبلغ عنق الزجاجة، فيحدث هجوم مباغت من المتمردين بدعم من المستعمرين فيحدث الانفراج للنظام ويقدم له هدية في صحن من ذهب، أي أن النقمة رغم الخسائر التي تصحبها إلا أنها تتحول لنعمة تمتص غضب الجماهير المكتوم وشكواها المتصلة في بيوت الأفراح والأتراح والمركبات العامة، وفي كل الملتقيات والمنتديات.. وثبت أن «الخواجات» لا يعرفون طبيعة الشعب السوداني وسايكولوجيته، ويعتمدون على معلومات مغلوطة، وعلى سبيل المثال كانت أمريكا حتى وقت قريب تعتبر أن كل ما يخص السودان هو شأن ينظر فيه من خلال الملفات المصرية، أي أن ملف السودان كان يعتبر أحد ملفات مصر، والمؤكد أن الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك ومخابراته لعبوا دوراً كبيراً في شحنهم وتأييدهم لأمريكا بكل أجهزتها وقوى ضغطها المختلفة ضد السودان، أو بالأحرى ضد النظام الحاكم فيه الذي كان حسني مبارك يعتبره شوكة حوت في حلقه، ولعب بعض أبناء السودان العملاء العاقين دوراً كبيراً في تشويه صورة بلادهم، ولعبت بعض المنظمات المشبوهة أيضاً دوراً في تشويه هذه الصورة لقاء أموال يتلقونها للقيام بهذا الدور القذر. وإن الدليل على عدم معرفة «الخواجات» لسيكولوجية الشعب السوداني أن المدعو أوكامبو عندما أذاع بيانه الشهير الذي أعلن فيه باسم محكمة الجنايات الدولية المزعومة توقيف الرئيس البشير، أي إلقاء القبض عليه توطئة لتقديمه للمحاكمة، غضب الشعب السوداني غضبة مضرية، لأن من يشغل موقع رأس الدولة أياً كان اسمه وفي أي عهد فإنه يعتبر رمزاً للسيادة، وقد استفزهم بيان أوكامبو واعتبروا أن فيه «حقارة» للسودان وطعنة نجلاء في سيادته وعزته وكرامته، وكان المشير البشير عند إذاعة البيان في زيارة لمنطقة وادي سيدنا، وعند عودته في طريقه لبيت الضيافة حيث يقيم، خرجت جماهير كل أحياء أم درمان التي مر بها عن بكرة ابيها، واستقبلته استقبال الفاتحين، وهي تهتف باسمه. وكان يلوح لهم بيديه وهو واقف داخل عربة مكشوفة، ونقلت الفضائية السودانية هذا المشهد الفريد والاستقبال الجماهيري الحماسي العفوي نقلاً مباشراً، وخرجت بقية الأحياء بذات الحماس العفوي. وفي اليوم التالي الذي توافق مع الاحتفال بافتتاح سد مروي كانت هتافات الجماهير الهادرة هي «الرد الرد بالسد»، وأخذت الوفود الحاشدة تأتي تباعاً من الولايات مؤيدة ومبايعة للبشير. وفي إحدى الليالي قدمت الفضائية السودانية ليلة إنشاد عن البشير الذي كان يستقبل في بعض المناطق في تلك الايام بالطارات والنوبات، ورفعت صوره المكبرة في كل الأماكن العامة، مع بث صوره المكبرة في اللوحات الضوئية الإعلانية في كل التقاطعات. وفي الانتخابات الرئاسية التي أجريت في عام 2010م كونت لجنة قومية لدعم ترشيح البشير، وفي تقديري أن أوكامبو كان هو أمين التعبئة الجماهيرية في حملة البشير الانتخابية، وبعد ظهور النتيجة كان ينبغي أن يقدم له صوت شكر ويمنح العضوية الفخرية لتلك اللجنة القومية ولحزب المؤتمر الوطني. وقياساً على ما ذكرته آنفاً فإن الشعب السوداني بعد المحاولة الفاشلة لاحتلال أم كرشولا والأعمال الهمجية في أم روابة ينظر للمتمردين باحتقار، وينظر باحتقار أكثر للقوى الأجنبية الاستعمارية التي تدعمهم وتقف من خلفهم. وإن الفريق سلفا كير رئيس دولة جنوب السودان مسلوب الإرادة وهو في موقف حرج، إذ أن المبعوث الأمريكي في دولة الجنوب مستر ونتر يعتبر نفسه هو الحاكم الفعلي للجنوب، وأن القوى الأجنبية تملي أوامرها على حكومة الجنوب وتفرض عليه فرضاً رغم أنفها أن تكون هي مقر الجبهة الثورية التي تضم الحركات الدارفورية المتمردة ومتمردي قطاع الشمال والداعمة لهم، لشن حرب عصابات ضد السودان، وأن حكومة الجنوب تتنازعها مراكز قوى عديدة تعادي السودان، منها مجموعة أبناء أبيي في قيادة الحركة الشعبية وحكومة الجنوب، ومجموعة أولاد قرن أصدقاء وحلفاء قطاع الشمال الذين مازالوا يعيشون في أوهام ويسعون لفرض مشروعهم المسمى السودان الجديد على الشمال، وأن القوى الأجنبية قد أدركت أن هذه الحركات المتمردة لن تستطيع بحروب عصاباتها إسقاط السلطة المركزية في الخرطوم، ولكنها يمكن أن تحدث اضطرابات وقتية هناك وهناك، وقطعاً أن هذه القوى الاستعمارية قد أيقنت أن المعارضة الضعيفة لا تجد سنداً جماهيرياً ولن تستطيع تغيير النظام بانتفاضة شعبية عارمة، وهي لا تملك غير الثرثرة وكثرة الحديث التي لا تجدي فتيلاً، وأن النظام الحاكم صعب المراس ولن يستسلم مهما كانت أخطائه كثيرة، حتي لو حوصر في محلية الخرطوم وحدها، وسيدافع عن نفسه من أجل بقائه حتى آخر طلقة، وأن القوى الاستعمارية التي تسعى لتفكيك السودان وتقسيمه لعدة دول ستمضي في مشروعها الإجرامي الاستعماري الآثم غير عابئة، وقامت قبل ذلك بأعمال لا إنسانية ولا أخلاقية مثل ضرب مصنع الشفاء والهجوم الأخير على مصنع اليرموك، وليس من المستبعد أن تتخذ من حكومة الجنوب مجرد واجهة وستارة وتقوم من خلفها بفتح عدة جبهات قتال ضد السودان مع دعمها دعماً مفتوحاً بأحدث الأجهزة، ولا بد من الحيطة والحذر، وينبغي أن يكون الوطن في حالة استعداد قصوى وتعبئة، لأن القضية أضحت قضية وطن يكون أو لا يكون، وليست قضية نظام يبقي أو يذهب، وعلى الجميع ترك المعارك الانصرافية الجانبية، والالتفاف حول الوحده الوطنية من أجل تماسك وطنهم لئلا يتفكك ويغدو عدة دول.