منذ صغري لديَّ اعتقاد كبير في ارتباط الإبداع والفكر بالسرَحان.. وأن كل من يريد أن »يركِّز« في موضوع ما يشغله تعمه تلك الحالة من الشرود والتركيز وسرعان ما يضيء ذهنه بالحلول المطلوبة، ولا أدري لماذا كانت تأسرني تلك الحالة التي كنت أتتبعها لدى الآخرين وأنسج وفقًا لها القصة والقضية والحلول التي تحوم فوق الأذهان! وكيف كنا نشتري كوبا الشاي أنا وصديقتي ونجلس على مصطبة الكافتيريا نتجرع الشاي الساخن ونسرح افتعالاً يتحول إلى فعل حقيقي وكم كنا نسعد بتلك الحالة التي تقربنا من عالم الكبار وعالم التفكير الدقيق والسرحان! وكم كنا نسعد بابتداع تلك اللحيظات التي نخال فيها أنفسنا شيئًا كما المفكرون والفلاسفة والمبدعون.. واليوم ونحن في وسط معترك عالم الكبار نعيش ضجيجه وسكونه.. نضيع وسط الأفكار والكتابات.. الإبداعات والاخفاقات، ما يمس شغاف قلوبنا وما يصيبنا بالاستياء فنعبره عبور الكرام.. والآخر الذي يجعلنا نتأمل ونسترجع تخيلاً لتلك الحالة التي كان فيها من كتب الإبداع سطورًا.. وتلك الحالة يمكن أن تكون طقوساً يعيشها الكاتب أو المبدع ويمكن أن يكون الأمر يأتي وحسب بلا طقوس معينة متى ما جاء الإلهام أنزله على الورق أو على حافة الصحيفة أو صندوق السجائر أو على ظهر المنديل الورقي كما ذكرت غادة السمان في أحد لقاءاتها القديمة.. كيفما اتفق خشية أن تطير الفكرة أو نواة الموضوع أو القصة.. وحكى لي الأستاذ إسحق فضل الله في حوار معه أنه يكتب الفكرة لحظة حضورها في أي مكان في منتصف الطريق، يركن عربته ويكتب.. على هامش الصحيفة التي يحمل ومجموع هذه الكتابات والأفكار المتفرقة تشكل مواضيعه وقصصه. وفي مصر القريبة اشتهر الكاتب نجيب محفوظ بمشواره الثابت دقيق المواعيد وجلوسه على المقهى للكتابة.. والشاعر أحمد شوقي كان يكتب في المقاهي على أوراق علب التبغ وكان يترنّم بشعره قبل أن يكتبه.. عرف عن نزار قباني أنه كان لا يستخدم إلا الأوراق الملونة في الكتابة. وقيل إن جابريل جارسيا ماركيز كان يلبس لباسًا أشبه بلباس الميكانيكي »عفريتة« لأنها كما يراها رداءً مريحًا ويقولون إن ماركيز كان يستهلك مئات الأوراق لإنجاز قصة من اثنتي عشرة صفحة! وكان وجود الأزهار الصفراء على منضدته تجلب له حظ الكتابة! وهمنغواي لم يكن يستعمل المكتب بل كان يعمل في البرج الأبيض المطل على العاصمة هافانا، والبرتو مورافيا يكتب بروتين ثابت لا يتغيّر كما في الأكل والنوم.. هل من يتبع طقسًا في الكتابة أكثر إبداعًا من سواه؟ ونقرأ ونسمع عن تلك الحالة من الفوضى التي يكون فيها بعض المبدعين وفي مختلف المجالات وخاصة الفنانين التشكيليين التي توحي حالاتهم بالتركيز لإخراج الإبداع اللوني على اللوحات. هل الحالة تضيف للإبداع شيئاً أم هي بداية الإبداع؟ وهل تفيد هذه الحالة في عموم الفكر والتفكير؟!! وإذا ما أصابتني حالة بياض الذهن لا صفاؤه !! أو تلك الحالة من الزحمة والضجيج الداخلي وأحياناً من الخارجي ولا نعدم الأسباب !! هل يسعفني الفكر حينها إذا ما »طقّسّت« له ومع سبق الإصرار؟!!.