هذه حلقات متتابعة لرواية تتكون من ثلاثة أجزاء «ثلاثية» أولها «التغريبة» يتلوها «مشلهت والضياع الكبير» ثم الجزء الأخير «مشلهت والضياع الأكبر». تتمدد هذه الرواية في مساحة زمنية كبيرة تبدأ من اليوم الأول لانقلاب الرئيس الأسبق جعفر نميري في صبيحة الخامس والعشرين من مايو «1969م» وتتواصل أحداثها إلى معتقل قوانتانمو في القاعدة الأمريكية في كوبا. تُنشر لأول مرة مكتملة بأجزائها الثلاثة في جريدة «الإنتباهة». ملخص الحلقات السابقة مشلهت كان يعمل وكيلاً لإحدى الوزارات الخدمية وهو وعدد من الناس اضطرتهم ظروف الحكم المايوي إلى مغادرة السودان وطلب الهجرة والعمل في الدول الخليجية في أكبر هجرة عرفها السودانيون وكان من بينهم الدكتور الزبير الأستاذ بكلية الهندسة الذي وصل معهم المملكة العربية السعودية إلا إنه جاءه خبر وفاة زوجته في حادث انفجار أنبوبة غاز مما اضطره للرجوع للسودان فاستعان بصديقه مشلهت ليدبِّر له أمر الرجوع للسودان. وجاء موضوع أخته سعدية التي أُصيبت بنزيف في المخ أحدث لها شللاً وتقرر نقلها للمملكة العربية السعودية لعلاجها. ولكنها توفيت قبل أن تصل مطار جدة. الحلقة «26» والله مش عارفين... لكين من الصباح ما كان موجود... وهو انتهى من علاجه؟ العلاج طبعاً انتهى... لكين نحنا حاجزينو في المستشفى لفترة نقاهة وعلى العموم ما نقدر نعمل حاجة غير انو نكتب في سجلاتنا انو خرج بدون إذن المستشفى وما خلى أي عنوان بوراهو...ويتضايق مشلهت من هذا التصرف فيعلق قائلاً: على أي حال يتحمل هو مسؤولية أي حاجة تحصل ليهو... نحنا وانتم العلينا سويناهو... ولكين تفتكر يا دكتور يكون هرب كيف؟ أنا أفتكر إنو لازم يكون مشى مع صاحبه الباكستاني... أنت تتذكر انو الباكستاني كان مصر إنو ياخدو معاهو؟ يا أخي ديل ناس مجانين... عندهم أفكار غريبة وهوس... وعلى أي حال أنت ممكن تبلغ البوليس وتديهم أوصافه... وإذا وجدوه حيتصلوا بيك حتماً... عاد مشلهت إلى بيته وهو يستعيد وقائع الأحداث الماضية ويقلب الأمر في ذهنه وهل عليه أن يتصل بالشرطة ليدون بلاغاً عن اختفاء ابن أخته... وماذا يفعل إذا عثرت عليه الشرطة هل يتصل بالسفارة لينظم عملية إرجاعه الى السودان... أم ماذا يفعل... في هذه الأثناء كان مشتاق الباكستاني ومعه شخص آخر قد حملا معاوية داخل سيارة أجرة الى غرفة في أحد الأحياء... وأول سؤال وجهه مشتاق لمعاوية: هل نقلوا لك دماً؟ نعم؟ أولئك الأنذال... اعرف انهم لا بد أن يفعلوا معك مثل هذا.... انهم يريدون أن يلوثوا بدنك بذلك الدم... وهو محرم عليهم قطعاً... أنت الآن تجري في عروقك النجاسة ولا بد أن نخلصك منها... على أي حال ابق أنت هنا مع هذا الصديق الى أن أعود. مضت مدة ليست بالقصيرة عاد بعدها مشتاق ومعه شخص آخر يحمل حقيبة صغيرة... هذا صديقي وتلميذي معاوية... ومد الرجل يده وسلم على معاوية وعلى الشخص الآخر الذي كان موجوداً بالغرفة ثم شرع يُخرج بعض الأجهزة من تلك الحقيبة التي كانت يحملها. وتبين لمعاوية وسط تلك الأجهزة... قوارير وإبر ورباطات .. قام الرجل بتجهيزها بينما طلب من معاوية ان يستلقي على ظهره ويمد يده اليمنى... فعل معاوية كل ما طلب منه دون أي استفسار أو مناقشة واخذ الرجل يشفط كميات من الدم من يد معاوية حتى امتلأت قارورة فاستبدلها بقارورة أخرى وظل معاوية على هذا الحال دون أن يدري كم الكمية التي عليه أن يتخلص منها حتى يعود طاهراً بعد أن شفطت من جسمه تلك الدماء المحرمة كما يقول مشتاق. أشار مشتاق الى الرجل أن يتوقف واخذ يمسح على جبة معاوية وقد بدت صفراء شاحبة... ثم ناوله مشروباً من الأعشاب كان مشتاق قد أعده جاهزاً... نهض معاوية من رقدته وهو يثنى يده ثم تناول الكوب واخذ يشرب... الا إن نوبة من السعال داهمته فأخذ يسعل بشدة... وأسرع مشتاق واخرج من حقيبة صغيرة مرهماً تفوح منه رائحة المنثول واخذ يدلك به صدر معاوية... ولكن نوبة السعال اشتدت وظهرت علامات الدوخة على معاوية... وراح في غيبوبة غير متوقعة... بذل مشتاق وأصحابه مجهوداً جباراً في إعادة معاوية الى وعيه ويبدو أنه تعرض لهبوط في ضغط دمه بسبب الدم الذي شفط منه وأنه في هذه اللحظة يحتاج الى سوائل كثيرة وأملاح .. كان مشتاق مشغولاً بتحضيرها... مع كمية من الأعشاب ومشروب الجينسنج المر... بقى معاوية بين غيبوبة وأخرى... يرهقه الضعف والهزال ولا أحد يدرى مكانه الا مشتاق وصحبه الباكستانيين الذين تولوا عملية مراقبته وتمريضه الى أن يقوى جسمه... وبالنسبة لمشلهت فقد اختفى معاوية كما ظهر فجأة... ولكن مشلهت يعلم في قرارة نفسه أن الظروف التي تحيط بابن أخته معاوية ظروف غير طبيعية وانه وقع تحت تأثير مجموعة من الناس الذين يظنون انهم يحسنون صنعاً... ولم يدر بخاطرهم إن معاوية تقع عليه مسؤوليات جسام... أربع من البنات فقدن والدهن وهن صغيرات السن ثم فقدن والدتهن كلمح البصر وهاهو أخوهن يعانى من أزمات نفسية وصحية وعقدية خطيرة . لقد وجد مشلهت نفسه وهو يتفرج على الأحداث تأتى أمامه كشريط سينمائي أو كحلم أو كابوس مخيف.... وهو لا يستطيع أن يفعل شيئاً... بل إن كل الأحداث كانت اكبر من طاقته... وهاهو الآن أمام معادلة لا يعرف أي مكون من عناصرها حتى يعرف من أين يبدأ الحل... إن الهوة بينه وبين ابن أخته معاوية كبيرة جداً... ولا مجال لتقارب فكرى... فهو يعتبر معاوية شخصًا منحرف الأفكار وان سبب انحرافه الفكري يعود الى عقدة الذنب كلما تذكر انه كان السبب في وفاة والدته.. وانه ارتكب جريمة شنيعة في حق خاله... وان الأفكار التي حملها في رأسه هي غطاء لتلك العقدة... لو فقط استطاع أن يفهم معاوية انه لا يزال هناك مجال كبير للاستغفار... وانه يمكن أن يكفر عن ذنوبه بان يلتفت الى عائلته وأسرته ويعود يرعى أخواته ويساهم في أعالتهن... وهذا وحده يكفي... ولكن أين هو معاوية الآن؟ ومعاوية يرقد بين الموت والحياة بعد أن شفط ذلك الباكستاني الدم من عروقه بحجة انه دم نجس لا يجوز أن يبقى في جسمه... مضت أيام عديدة ومعاوية يصارع قدره الى إن من الله عليه بالشفاء وتدريجياً يتحرك ويمشي داخل الغرفة وخارجها... وذات يوم برقت في ذهنه فكرة... امتلأت نفسه حماساً وقوة .. قال لصديقه الباكستاني : لقد خرجنا في البداية لنشر الدعوة... وحدث ما حدث والآن بقينا هنا زمناً طويلاً دون أن نفعل شيئاً... الا ترى أننا تقاعسنا عن العمل الذي نذرنا أنفسنا لقضائه؟ .نعم ... يا صديقي ... أنني اشعر أننا كالماء ا لذي احتبس في مكان ما فترة طويلة ... وعلينا أن نتابع جرياننا .. ماذا تقترح ؟ .اقترح أن نذهب للسودان ... حيث الجو مناسب جداً هذه الأيام لنشر أفكارنا ودعوتنا ... كما إنني اعرف السودان جيداً لأنه بلدي ... لا أظن انا سنصادف أية مشاكل قاسية ... ويتساءل مشتاق : .ولكنك ستذهب للسودان وستنشغل بأسرتك وهذا أمر لا يجوز في دعوتنا ... لأننا كما سبق أو وضحت لك ... إن الدعوة يجب أن تتخلص من قيود الأسرة والأهل والولد ... وعلى الداعي أن يكون متجرداً من كل أمر يقعد به عن التبشير .. فما هو قولك ؟ ويؤكد معاوية : .أنا أريد أن أواجه هذا الوضع حتى اثبت لنفسي انى املك الإرادة التي تجعلني أتجرد من كل شي يربطني بأسرتي ... أنت الأن لا تستطيع أن تتأكد إذا كنت أنا قد تجردت من مثل تلك المؤثرات أم لا ... ولكنك بذهابك معي ووقوفك بجانبي سيتأكد لك صدق عزيمتي وقوتها ... ويوافق مشتاق وهو يشعر إن تعاليمه قد فعلت فعلها في تلميذه النجيب معاوية ... ولهذا يقو له: .أنني منذ الأن اعتبرك خليفتي ...فإذا حدث لي مكروه فأنت الأن معلم الجماعة وتستطيع أن تقود السفينة بنفسك ... ولكن كيف نستطيع أن نذهب للسودان ونحن لا نملك اي أوراق؟ ويجيب معاوية : * هذه اتركها على ... دخول السودان لا يحتاج لأوراق وسأقوم بتنظيم كل ما نحتاج له ... المهم أن نسعى . ولم تمض أيام حتى اختفى معاوية والباكستاني مشتاق ولا أحد يعلم أين مقرهما مضت أيام عديدة ونسى مشلهت قضية معاوية مثلما جاء اختفى وربما يظهر مرة أخرى وربما لا يظهر ... فهذا ليس من شانه أو على الأقل لن يشغل نفسه بها الأن . نفيسة أخت معاوية – اصغر البنات تدرس في مرحلة الأساس بحلة كوكو ... خرجت من مدرستها ذات يوم واسترعى انتباهها ذلك الشخص الباكستاني ويقف بجانبه شخص يرتدى زياً غريباً وله لحية كثيفة تغطى صدره وجزءاً كبيراً من وجهه وخيل اليها في لحظة أنها قد رأت تلك العينين ... ربما شئ من الألفة أو ربما هاجس داخلي أعاد لها صوراً عديدة لعيون رأتها من قبل فالتصقت بذاكرتها ... كان هناك جمع من الناس يستمع لذلك الباكستاني بالقرب من موقف الحافلات وهو يتحدث عن العقيدة والدعوة والدنيا التي امتلأت شروراً وفجوراً وكفراً ... كان ذلك الشخص الواقف بجواره يترجم ما يقوله بلهجة سودانية واضحة ... التقطت منها نفيسة صوت معاوية ...فاقتربت اكثر واكثر وضربات قلبها تتزايد وهى لا تدرى شيئاً مما كان يقوله الباكستاني وما كان يترجمه ذلك الشخص .... إذ أنها كانت تحس بأنها على موعد مع ذلك الغائب منذ سنين ... وحانت التفاته من معاوية فلمح نفيسة وهى قد ثبتت عينيها في جسمه فأصابته بارتعاشه كأن مساً كهربائياً قد سرى في جسمه وحاول أن يدير عينيه عنها الا إن ملاحقة تلك العينين جعلته يتحرك دون وعى منه ويقترب منها ... فخرجت منها صيحة : . معاوية ؟ ... أي والله ... معاوية ... معاوية أنت معاوية مش كدا ؟ معاوية أخوى ؟ .. وقطع مشتاق الباكستانى حديثه واتجه بنظره صوب نفيسة ... ومعاوية يسير نحوها ... وهو يشعر إن ذلك الاختبار الذي تحدث عنه من قبل وهو يشرح نظرياته لمشتاق قد دنا موعده فقال في لهجة حازمة لنفيسة : . يلا ... يابت ... أمشي من هنا أمشي اتحجبي ... وغطى وشك وماعايز أشوفك هنا بالشكل دا .. وشعرت نفيسة برعب حقيقي يسرى الى أوصالها ... ما الذي حدث لمعاوية أخيها ؟ ... وما هذا الذي يقوله ؟ وأي حجاب يتحدث عنه ؟ ... أنها في المدرسة تذهب كل يوم بذلك الزي ولم يطالبها أحد بزي خلافه ... ولكن لماذا يتحدث معها معاوية بهذه اللهجة التي لم تسمعها منه طيلة حياتها وحتى عندما سافر وغادر السودان ... وتراجعت خطوات الى الوراء وهى لا تصدق إن الذي أمامها هو أخوها معاوية ... ذلك الفتى الرقيق العطوف الذي كان يحملها على كتفه وهى صغيرة وخاصة وهى لا تذكر ملامح والدها الذي توفى قبل أن تنطبع صورته في ذاكرتها ... وانطبقت صورة معاوية بدلاً عنه ... ولكن هذا شخص آخر ... وقبل أن يمسك بها ... رجعت نفيسة الى الخلف وجرت مولولة الى منزل أهلها وهى تصيح : . معاوية جا ... معاوية جا ... معاوية جا ... في هذه الأثناء كانت نجاة إبنة حاجة سعدية الكبيرة ... تغسل كفتيرة للشاي على ماسورة بالقرب من المطبخ سمعت صياح نفيسة ... ولم تصدق ما سمعت : . يا بت أنتي جنيتى ... معاوية منو الجا؟ . معاوية أخوى ... . معاوية أخوك ؟ وجا وين ؟ .جا ... هناك في موقف البصات ... حتى معاه واحد هندي ... ولم تصدق نجاة ما تفوهت به نفيسة ... وظنت إن الأمر قد اختلط عليها ... وجاءت من داخل إحدى الغرف سعاد ورقية ولم يتبين البنتان ماذا كانت تقوله نفيسة ... فنهرتها إحداهن قائلة : . يا بت بطلى الطرطشة وروقي ... كدي كلمينا الحكاية شنو ؟ ومعاوية دا وين .... .شفتي يا رقية ... والله العظيم هو ذاتو ... بس عمل ليهو دقن وشكله غريب ... وحتى هو ذاتو عرفني قال لي يا بت يله أمشي من هنا واتحجبى ... صاحت البنات : . أمشي اتحجبى ؟ هو قال ليكى كدا؟ . أي والله ... .وأنتي عرفتيه كيف دا معاوية ؟ ما يمكن زول تانى ... وكمان قلتى عنده دقن ... معاوية لمن سافر من هنا ما عنده دقن؟ وبعدين ايه حكاية الهندي دى ؟ وتجيب نفيسة : . واحد هندي شكله غريب واقف يتكلم ومعاوية بترجم كلامو للناس ... وتحاول إحداهن أن تخلخل رواية نفيسة : . طيب لو دا معاوية صحي ... ليه ما جا هنا ؟ وبعدين معاوية ذاتو البجيبوا من روسيا شنو ؟ وتجيب نفيسة بإصرار : .انتو لو مكضبنى ... يله أرحكم معاى هسع لمحل البصات وتقف البنات برهة وتنظر كل واحدة في وجه الأخرى وكأنها تبحث عن رأى ثم تهز سعاد رأسها بالموافقة قائلة : . طيب يلا خلينا نمشى نشوف الحكاية دى شنو ... واصلوا موقف البصات ما بعيد من هنا... وتخرج البنات مسرعات الى موقف البصات الذي كان يعج بجمع غفير من الناس ويبدو إن حركة غير عادية قد انتشرت في ذلك الميدان ... ومن بعيد جاء صوت الباكستاني وهو يتحدث بالأنجليزية وصوت معاوية وهو يترجم ما يقوله الباكستاني وبالرغم من أن البنات لم يشاهدن المتحدثين الا أنهن تيقن إن من يقوم بالترجمة هو معاوية ... فصوت معاوية لا يخفى عليهن ولكن كيف السبيل الى اختراق ذلك الحاجز البشرى الذي يحول بينهن وبين أخيهن معاوية ؟ نفيسة ولصغر حجمها استطاعت أن تتسلل من وسط أرجل الواقفين وتزحف وتشق طريقها حتى تقف أمام الباكستاني وهى تقول لمعاوية: * اهن ديل أخواتك جن يا معاوية .. يله أمشي معانا البيت ... وتسرى قشعريرة في جسم معاوية وهو ينظر الى عيني أخته نفيسة وكأنها تأمره يضع حداً لما يقوم به ويصطحبها الى البيت ... لا شي في تلك اللحظات يمكن أن يساوى صدر أمه سعدية وتسللت الى مخيلته كلمات الشاعر محمد المكي إبراهيم التي كان معاوية يرددها دوماً : سأعود لا ابلاً وسقت ولا بكفي الحصيد روائعا مدوا بساط الحب واغتفروا الذنوب وباركوا هذى الشهور الضائعة ما زال سقف أبى يظل ولم تزل أحضان أمي رحبة المثوى مطيبة الجناب . (نواصل) آخر الكلام: دل على وعيك البيئي.. لا تقطع شجرة ولا تقبل ولا تشتر ولا تهد هدية مصنوعة من جلد النمر أو التمساح أو الورل أو الأصلة أو سن الفيل وليكن شعارك الحياة لنا ولسوانا.ولكي تحافظ على تلك الحياة الغالية لا تتكلم في الموبايل وأنت تقود السيارة أوتعبر الشارع. وأغلقه أو اجعله صامتاً وأنت في المسجد.