ربما كان حماس وأشواق د. غازي صلاح الدين لإخراج زبدة ما يريد أن يقول قد أبى الانحباس فاندفع اندفاعاً منذ فاتحة مقاله الذي نشرته صحيفة الشرق القطرية قبل أيام، وصحيح أن المقال يحوي مضامين عميقة ومهمة لكن لعل ما استهل به المقال ربما كان يمثل بالفعل أهم عنوان الأزمة في السودان فقد أشار بعد بضعة سطور فقط من استهلالية المقدمة عندما لخَّص علل الحكم المتوارثة من الاستقلال برؤية تحليلية متعمقة قائلاً: «لقد تضافرت عوامل عدة منذ الاستقلال لتورث نظامنا السياسي علله الراهنة. أولها، علل الدولة التي اضمحلت على مر الأيام كفاءتها وحيدتها وهيبتها، وانحازت إلى وظيفة التنفيذ على حساب وظائف التشريع والرقابة، وإلى هموم الحكومات ومن يمسكون بها على حساب هموم المجتمع وسواد الناس. وقد غدت مؤسسات الدولة بلا إستراتيجيات هادية، وضعف التزامها بحقوق المواطن وحرياته، وفي مقدمتها حرية التعبير وحرية التجمع والتنظيم، واختل نظام العدالة، سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية، وازداد داء الفساد المالي والإداري الذي أضحى مسلكاً لا يرتكبه بعض الأفراد فحسب بل نهج تسير به مؤسسات وهيئات باسم القانون والإجراءات الاستثنائية» إذن د. غازي لخَّص أدواء الحكومات المتعاقبة بل حتى العالم العربي ينطبق عليه هذا التوصيف الشامل ففي تلك الأنظمة لم تعد البرلمانات تمثل نبض ورغبات وهموم الجماهير لكنها باتت مرآة لحكوماتها وصارت القرارات تُطبخ في مطابخ السياسة بينما ينحصر دور البرلمانيين في تمريرها وربما التهليل لها وتجذرت أخطاء الأجهزة التنفيذية في غياب الرقابة والمحاسبة مما فتح المجال للفساد المالي والإداري والذي كما أشار د. غازي تجاوز المسلك الفردي إلى جهات اعتبارية تدثرت بعضها باسم القانون والحماية الإجرائية، ولهذا عندما تسود الضبابية والقرارات الارتجالية فإن الرؤية الإستراتيجية تغيب وتختفي البوصلة الهادية لمسار الطريق وكان من الطبيعي في خضم الاستغراق الذاتي والتخبط والوقوع في الأخطاء أن تعمد الأنظمة للغطاء بستارة كثيفة من أجل حجب الرؤية ووضع حاجز من الإجراءات الاستثنائية والتوسع فيها عند كل أزمة جديدة فتكون الحريات هي القربان الذي يُذبح من أجل إسباغ قدر من الحماية المتوهَّمة وتتوه المرجعيات والثوابت في فقه البدايل والمعاذير الممتد بلا سقف وهدى أو كتاب منير وحين يغدو التأمين الذاتي للأنظمة غاية بدلاً أن يكون وسيلة محدودة ومنضبطة لتحقيق الغاية الأساس وهي التواؤم مع ثوابت الأمة ورفاهية المواطن وإصباغ العدل له حتى من براثن الصولوجان فإن الأهداف والغايات تضل طريقها في تلك الأشواك. ثم يشير د. غازي إلى أعراض الأزمة الاقتصادية وتداعياتها المتمثلة في خلل السياسات وضعف البنيات الاقتصادية وتراجع التنمية والتفاوت الطبقي ثم يعرج على المهدِّدات الأمنية و تمدُّد الحركات المسلحة وفتح كوة الحرب على نطاق واسع ويقول «ولقد تناصرت تلك العلل، مع علل أخرى لتورث البلاد ضائقة اقتصادية هي خليط من ضعف البنية الاقتصادية واضطراب السياسات. ونتج عن ذلك تراجع التنمية ومعاناة جميع فئات المجتمع خاصة الفقيرة، سوى قلة قليلة، مما أدى إلى اتساع الفروق الاجتماعية، ثم تضاعفت مهددات الدولة بنشوء الحركات المسلحة لانتزاع مطالبها بالمغالبة، فازداد بذلك عبء الحرب المثقل إلى الأعباء الأخرى» لكن لعل د. غازي حينما أشار إلى الحركات المسلحة لم يتكئ ولو عطفاً سريعاً علي الآليات التي استخدمتها الحكومة في معالجة هذه الأزمة فكثير من المراقبين والمحللين يرون أن إدارة الأزمة كانت محل نظر كبير فهي لم تصبح جزءًا من الأزمة فقط لكنها توازت معها بل ابتعدت عنها فراسخ كبيرة، غير أن د. غازي لم يبتعد كثيراً عن هذا التوصيف حينما أشار إلى خطورة استخدام القبلية وسيلة للتمكين السياسي المرحلي وما تفرزه من مهددات على النسيج الاجتماعي أو تصبح كما قال أن يتحول التنوع فيه «إلى وقود للاحتراب الأهلي عوضًا عن أن يكون مصدر ثراء، وأن يصبح الفضاء السياسي ساحة للصراعات القبلية وللممارسات العنصرية والإقصائية.» وبلا شك فإن الاتكاء القبلي يعتبر سياسة سابقة للإنقاذ لكنها تجذرت بشكل أكبر وهي تمثل حلولاً كسولة للكسب السياسي ونظرة قاصرة للمآلات والمخاطر المترتبة عليها فالأجدى هو المراهنة على الجماهير كفاحاً دون وسطاء بالانحياز إلى همومها وقضاياها وعندئذ فإن الزعامات البالونية وإن كانت تتمتع بالكارزيما فإنها ستعزل وستموت سريرياً خاصة أن انتشار الوعي يُعتبر خصماً عليها وليس المراهنة عليها لتثبيت عرى العصبية والعرقية التي تستمد منها قوتها. ثم يتحدث د. غازي عن أهمية تقبل النقد والمراجعات بعيداً عن الخوف والتحفظ ليس على ما وصفه بالممارسة العملية ولكن كما أشار على صعيد الأطروحات الفكرية والسياسية من أجل بلورة مشروع إصلاحي وهي رؤية مطلوبة بإلحاح في ظل التخندق بقوالب محددة في أطر التنظيم الرسمي ومن قبل جماعة محددة ربما تخشى من رياح التغيير ولو تنسم عطر الإصلاح ثم أشار الدكتور إلى ضعف المبادرات السياسية مطالباً القوى السياسية للعب دور فاعل في هذا الصدد وبالرغم من أن الساحة لا تخلو من المبادرات والتي لم تلاق التفاعل الإيجابي من الطرف الرسمي لكن د. غازي يرى أنها قد تفضي لما وصفه «بالحراك الإصلاحي في أوصال السياسة وقواها المختلفة، حراكاً يتوسل إلى غاياته بتجميع صف السودانيين على الحدود الدنيا المتفق عليها لتكوين «جبهة سودانية متحدة» تقود التصدي لأهم واجبات المرحلة بالبناء على كل ما هو متفق عليه وتأجيل المختلف فيه إلى حين قيام انتخابات يرتضيها الجميع» فهل تصبح مبادرة د. غازي التي هي عبارة عن مبادئ عامة أكثر من كونها نقاط في الحروف معلمًا ترتضي به الساحة السياسية وقبل ذلك الحزب الحاكم؟ هذا ما نتمناه بالفعل .