لم يكن يوم الثامن عشر من رمضان في العام 1996 م يومًا كسائر الايام في متحرك حق اليقين الذي كان يمضي بمحور سندروا بينما عزة السودان بالمحور الآخر... وكان كيد الغرب الماكر يدفع ببعض عملائه لإجهاض التجربة ووأد الفكرة كواحد من المخططات المتجددة الممتدة الى يومنا هذا.. لم نكن نقاتل اخواننا في جنوب السودان إذ كانت معنا قوة من الكتيبة الجنوبية تقاتل معنا الخوارج ومن خلفهم من اعداء الوطن. لم يكن ذلك اليوم كغيره من الايام اذ انه ومنذ الساعات الاولى للفجر بل قبيلها انتظمت المتحرك حركة دؤوبة وحذرة ايذانًا بالتحرك من «خور كارفيتو» نحو معسكر «نار بنق» الذي كانت ترابط به قوات الخوارج وبالقرب منه تبة في قمة جبل عليها قوة مراقبة وتصحيح للتدوين.. وكانت الخطة تحتم التحرك في محورين: الاول يتقدم نحو التبة في التفاف يجعل المسافة اطول ولكنه يخفي القوة عن اعين الرقباء ويستفيد من ستر الليل الذي بدأ يتلاشى بقدوم خيوط الفجر وبعد اكثر من ساعة تتحرك القوة الأخرى نحو المعسكر ليتزامن الاشتباك في المحورين.. كان اللواء «العقيد وقتها» صلاح سيد أحمد يقف بقامته الفارعة ووجهه الصبوح عند مخرج المعسكر يتفحص القوة المتحركة ويبادل افرادها نظرات التشجيع وتعميق الثقة.. ولم يكن احد يعلم ان ساعات معدودة تفصلهم عن نصر عزيز وفراق لأحبة كرام يختمون حياتهم وينالون الشهادة عند «نار بنق» و «تبة النحل» كما يسميها شيخنا سليمان طه .. ذهبت عصر يوم السابع عشر من رمضان للجزء الآخر من المعسكر والذي يقع خلف خور كارفيتو لزيارة وعيادة الاخ الكريم عثمان البشير الذي كان مصابًا بالملاريا التي ستقعده عن شهود معركة الغد الموعودة... وجدته يرقد تحت ظل راكوبة صغيرة وبجواره الشيخ سليمان طه رفيق دربه في متحركات سابقات وصديقه الذي يتبادل معه القريض عند احداث خلت عاشوها معًا فتوثقت الصلات وتجذرت المحبة وأمامه ماء وضع فيها بعض لحاء اشجار يشرب منقوعه الاخ عثمان لعلاج الملاريا اذ ان العلاج بالمتحرك كان فيه ندرة.. جلست اليهما وتجاذبنا اطراف الحديث لوقت قليل ثم قفلت راجعًا لموقعي قبيل ان يرخي الليل سدوله ويصعب التحرك.. ولم اكن وقتها اعلم انها الكلمات الاخيرة التي ابادلها لأخي عثمان والزيارة والوداع الذي لا لقاء بعده إلا في رحاب الرحمن ان صحت منا الاعمال وكتب لنا القبول لنلحق بهم.. كان لعثمان طعم خاص ونكهة طابت بها مجالس الدفاعات بالمتحرك فلكم طوَّفنا به على الجنود والمجاهدين في حديث ايماني وتذكرة وتزكية روحية وهو الخطيب البارع والمرشد الواعي والخبير بأحوال النفوس... كان يتأذّى ويظهر في وجهه الغضب عندما نقدمه لمستمعيه بأنه شقيق الرئيس... وظل يخطط ويعد لبرنامج رمضاني يذكِّر فيه بالفتوحات والنصر الذي تحقق في صدر الإسلام مزامنًا لبركات الشهر الكريم فكانت بدر الكبرى وكان فتح مكة وبدأ بالفعل مع اخوة كرام تشرفت بمعيتهم في تنفيذ هذا البرنامج التعبوي المعنوي التربوي.. سارت القوة صباح الثامن عشر من رمضان نحو غاياتها بمحوريها آنفي الذكر لتصل قوة الالتفاف الى التبة قبيل القوة المهاجمة للمعسكر ليبدأ الاشتباك الذي اربك وشغل قوة التبة عن رقابة القوة الاخرى المتحركة نحو المعسكر لتفاجئهم وسط الدفاعات.. وعند الاشتباك وعلى بعد نحو سبعة افراد مني أفاجأ برؤية اخي عثمان البشير في مقدمة ميسرة الصندوق فدهشت ولم اصدّق عيني إذ اني حسبته سيغيب عن شهود المعركة ولم يصرح بنيته في التحرك ولكنه كان على موعد مع الشهادة.. ولم يمضِ سوى وقت قليل حتى حسمت المعركة وانجلى لامر بنصر عزيز وتأتي الاخبار بأسماء الشهداء والجرحى ويروي لنا الراوي ان عثمان كسرت رجله واخلي للطبيب بالصندوق الاداري عند خور كارفيتو.. ومن ثم يأتينا النبأ كالصاعقة... استشهد عثمان وقبر عند خور كارفيتو الذي نظم عنده و فيه الأشعار من قبل ليضم جسده الطاهر ورفاقه شهداء الثامن عشر من رمضان ذلك المكان القصي النائي.... ولئن حاولنا استقصاء مناقب الشهيد عثمان لكتبنا المجلدات ولكنا نشير اشارات لبعض ما تميّز به ذاك الشاب الوادع الحالم العالم الحيي الورع الذي يأتيك كالنسيم فلا تحس الا بوقع صداه في وجدانك زهد الدنيا وانزوى عن الأضواء وضرب الانموذج والمثال لكل من اراد ان يلجم نفسه المتفلتة النزّاعة لحب الرئاسة والزعامة والسيادة والتسلط والبطر على العباد بمؤهلات وغير مؤهلات وتأبى الا ان تفني اجرها وتذهب طيباتها في الحياة الدنيا.. انه كتاب قرأت منه صفحات قليلة ففعلت فيّ الافاعيل وظل صداها في الوجدان يتردد وجهلت صفحات اخريات عرفها غيري ولكنها مبعثرة ومكنونة في صدور رجال تفرقوا في عرصات الدنيا غيّبت الأيام بعضهم وانتزعت آفة النسيان بعض ما في صدور من بقي منتظرًا.. فمن لنا بذي همة يجمع شتات ما تفرّق ويهديه للأجيال الناشئة عظة وعبرة وتجربة.. الا رحم الله شهيدنا عثمان حسن احمد البشير واخوانه شهداء الثامن عشر من رمضان وحيّا الله اهل حق اليقين احياء وامواتًا ورضي الله عن الشهداء والمجاهدين اجمعين.. ونكأت لي تلك الجراحات القديمة والمواجع يا شهيد دارت بفكري الذكريات.. وجرت دموع العين هل دمعي يفيد يا صاحب الصولات والجولات والرأي السديد من اين ابدأ والقال يطول.. والذكرى فصول.. ودونكم سفر بعيد... في خور « كارفيتو» نظمت الشعر بشرى للقلوب ونثرت قولاً كاللآلئ وابتسامتك الوديعة في الدروب وكساك ربك بالتواضع والوقار وكنت بالعزمات تقتحم الخطوب حتى اتى وقت الزفاف ونحن لا ندري بأن اليوم قد حان المعاد والافق احمر والمدافع زمجرت فوق العباد لا قول الا للحديد.. فيا سعادة من اجاد فخرجت من وسط الجموع لتفتدي كل البلاد وادرت ظهرك للحياة عرفت آخرها فناء وتركت خلفك عبرة للسائرين بلا اهتداء ومضيت في الآفاق مبتسمًا تلبي للنداء في عالي الجنات روحك رشّفت كأس الهناء