ودعت البلاد واحداً من أبنائها الكرام الذين قلَّ أن يجود الزمانُ بمثلهم. ذلك هو الشيخ ياسين عمر الإمام سليل الأرومية وسليل أولاد جعل. وكل كلام في هذه السطور التالية لا يفي الشيخ ياسين حقه. فقد بدأ حياته معلماً وقنديلاً يضيء الطريق لأبناء السودان. ويقال إن الشيخ ياسين في مستهل حياته كان يناصر الفكر العلماني المتطرف (الشيوعية) ولكن سرعان ما لفظه عندما وجده من أفكار ذوي العاهات كما يقول المفكر المصري عباس محمود العقاد الذي ألف كتابه (أفكار ذوي العاهات). لفظ ياسين هذا الفكر والتحق بالفكر الإسلامي. كيف لا يلفظ هذا الفكر وهو سليل أسرة ذات علم وخلق ودين. وله إخوة أشقاء قادوا التعليم والدعوة إلى الله ومن من أبناء السودان لا يذكر الشيخ عوض عمر الإمام إمام مسجد أم درمان الكبير ومرتل القرآن في إذاعة أم درمان. وإخوانه من المعلمين أحمد وحامد وصديق... إلخ. كانوا دعاة إلى الخير والنهضة بالسودان. وتركوا بصمات واضحة. كان ياسين مناضلاً ضد كل الظَّلَمَة وكان مناضلاً لنصرة الشعب السوداني ونصرة الحق والعدل. ينطلق من مبادئ إسلامية حررت الدنيا من قبل من قبضة الطواغيت. وهي مبادئ إسلامية أعلنتها وخرجت بها إلى الملأ من جديد حركة الإخوان المصرية ومن ثم دلفت إلى السودان. وكان ياسين أحد فرسان هذه الحركة التي كانت ولا تزال تنازل الغزو الفكري وتقف ضده. تلك الحركة التي كان لها أثر واضح في السودان وعدلت من حياة الشعب السوداني نحو الإسلام. كان مناضلاً جسوراً شهدته السجون ولم تلن له قناة. السجون شهدته منذ عهد عبود ومروراً بحركة مايو تلك الحركة التي حاربت التوجه الإسلامي في السودان. وشردت الإسلاميين من الإخوان أمثال زين العابدين الركابي وجعفر شيخ إدريس اللذين لم يعودا حتى الآن. وأودعت من بقي من المناضلين سجون كوبر وشالا وبورتسودان. كل الشرفاء من أمثال الشيخ ياسين الذين قالوا للظلم (لا) استودعتهم حركة مايو السجون. وقد كانت لي أيام مع الشيخ ياسين ويومها كنا طلاباً في الجامعة حيث تم اقتيادنا إلى سجن كوبر مع المناضلين الكبار أمثال الشيخ ياسين وحسن الترابي... إلخ. شيخ ياسين لم يبدل ولم تلن له قناة وكافح كل السنوات العجاف على عهد مايو. لقد كان ياسين مناضلاً جسورًا وفدائيًا فذًا وزاهدًا في الدنيا، قدم الشيخ ياسين فلذة كبده شهيداً في سبيل المبادئ الإسلامية. وذلك عندما كان التوجه صادقاً في سبيل الله. وعندما استولت الحركة الإسلامية على السلطة ظل الشيخ ياسين بعيداً عن بريقها وبعيداً عن أطماعها رغم أنه من المخططين لها. يشهد على ذلك أقرانه لا سيما الذين أغرتهم بل وحرفتهم عن المبادئ وأبحروا بعيداً عن التوجه الإسلامي. وعندما حل البلاء بالحركة الإسلامية (الانشقاق) وتغير طبع الحركة وطبع النظام السياسي ظل ياسين الإمام قابضاً على الجمر ينصح السلطة ولا يطمع. وانحاز ياسين إلى معسكر الحرية والعدل والمساواة بعيداً عن الاستبداد السياسي. ياسين عمر الإمام الذي عركته الحياة ظل أصيلاً طيلة حياته ومات أصيلاً كذلك. وأمثاله تركوا تراثاً جديرًا بأن يُكتب عنهم. وقد رحلوا ولم يدوِّنوا مذكراتهم والواجب يملي علينا أن نكتب عنهم ونؤرِّخ لهم. نؤرخ للذين رحلوا ونستكتب الذين لم يرحلوا وذلك بسرعة قبل الرحيل. حتى لا يرحلوا عنا ويحملوا معهم الذكريات. ونكتب نحن عنهم ويكتب غيرنا مثل هذا العنوان (رحل المناضل الجسور ورائد جيل العطاء ونكران الذات...) وهم كثر الآن يستحقون مثل هذا العنوان. رحم الله الشيخ ياسين عمر الإمام وألهم أهله وأولاده الصبر وحسن العزاء. (إنا لله وإنا إليه راجعون).