لقد أسقطت قضائياً التهم العديدة التي كانت موجهة للرئيس المصري المعزول في ثورة شعبية حسني مبارك. وأن رئيس الوزراء «الذي يعتبر في ظروف الطوارئ نائباً للحاكم العسكري» قد أصدر قراراً يفرض الإقامة الجبرية على مبارك في مقر إقامته بعد الإفراج عنه من السجن، ولعل مرد ذلك هو محاولة تأمينه والحفاظ على حياته لئلا يتم اغتياله من قبل الغاضبين عليه. وفي القرار إزالة للحرج وحد للتوترات التي يحدثها هذا الإفراج، وبعد أن تهدأ عواطف الغضب بالتدريج يتوقع أن يتم الإفراج عنه لاحقاً ليعيش حراً طليقاً في شرم الشيخ أو غيرها وهو ولي نعمة الممسكين الآن بزمام السلطة وله عليهم أياد سلفت ودين مستحق، وكان السيسي أحد سدنته. ولعل القرار القاضي بالإفراج عنه قد أرضى أمريكا وإسرائيل ومن يدورون في فلكهما اعترافاً بالخدمة الطويلة الممتازة التي قدمها لهم مبارك كشرطي حراسة في المنطقة مكلف بمحاربة ما يطلقون عليه الإسلام السياسي والإرهاب والتطرف وما إلى ذلك من الترهات!! ومن المفارقات أن الرئيس المعزول بأمر الجماهير التي ثارت ضده قد أفرج عنه وأن الرئيس الشرعي المنتخب هو الآن رهن الاعتقال رغم أنه أمضى عاماً واحداً في دورته الرئاسية، وظل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء المضاد له يشن عليه حملة شرسة كثرت فيها الشتائم والإساءات والبذاءات «وقلة الأدب» وكان محاطاً بأطراف عديدة معادية له هي الإعلام المضاد والجيش والقوات النظامية والاستخبارات وفلول النظام السابق والقطط السمان التي أثرت بالحرام ورجال المال والأعمال الذين أُضيرت مصالحهم والأقباط والمسيحيون والساحة الفنية بالمغنيين والمغنيات والممثلين والممثلات والراقصات مع تمدد الدولة العميقة رأسياً وأفقياً وقبل وبعد ذلك كله تربص القوى الأجنبية المعادية، ولذلك تحالفوا جميعاً وأعدوا جيداً لانقلابهم على الشرعية وخلقوا ندرة مفتعلة في الغاز والخبز وغيرهما وألبوا الشارع بادعاء أن تنظيم الإخوان المسلمين يسعى لأخونة كل مرافق ومؤسسات الدولة وحشدوا مؤيديهم في ميدان التحرير وغيره وأعلنوا بعد ذلك أن الجيش انحاز لهم نزولاً لرغبتهم وفق مسرحية مرسومة الحلقات بدقة وأمريكا التي تساند النظام سراً عبر قنواتها العديدة تتظاهر وتدعي أنها غير راضية عما يجري في مصر وغير موافقة على إسقاط الشرعية وتدعو الطرفين لضبط النفس والتفاوض وهي تأمل في إجراء انتخابات عامة جديدة يكون فيها الإخوان المسلمين ممثلين بنسبة لا تؤثر في البرلمان مع إمكان إشراكهم في العمل التنفيذي ببعض المواقع الوزارية، أي أن يذوبوا في الآخرين ويصبحوا مجرد شريحة تعمل في مجال الدعوة في المساجد وفي النشاط الاجتماعي دون أن تكون لهم قيادة وريادة الدولة، ولن يكل سعيهم في محاولة اختراق الجماعة وخلق تيارات متنازعة داخلها «فرق تسد» وهدفهم في النهاية هو فصل الدين عن الدولة وإقامة دولة علمانية واعتبار التجربة السابقة على قصرها فاشلة. وأن هؤلاء الخواجات يقتلون القتيل ويمشون في جنازته ولكن تعثر مخططهم إذ أنهم كانوا يسعون لتنصيب دكتور البرادعي رئيساً للوزراء ولما قوبل هذا الاختيار بالرفض الجماهيري العارم تم تعيينه نائباً لرئيس الجمهورية للعلاقات الخارجية وفي ظل وجود وزارة الخارجية يكون هو أشبه بمدير أو ضابط علاقات عامة ومنسق بين مصر وغيرها ولم يكن راضياً عن هذا التعيين، ورغم أنه كان من رؤوس الفتنة إلا أنه استقال مستهيناً وغير راضٍ عن موقعه الرسمي الديكوري ولكنه ادعى أنه مع الحلول السلمية وضد العنف المسلح ضد المتظاهرين في ميدان رابعة العدوية وغيره، وخرج من البلاد مغاضباً ولو أنه عين رئيساً للوزراء كما كان يرغب لما اتخذ هذا الموقف. وأن الأوضاع الأمنية والاقتصادية غير مستقرة بمصر وتجري حالياً معالجات إسعافية بالمنح والقروض ولكن على المدى البعيد فإن أمريكا «وإسرائيل ومن يدورون في فلكها» لن تقدم مساعداتها المالية ومنح القمح ما لم يرضخ لها النظام ويكون أسير سطوتها وسلطتها. وفي ثورة 25يناير عام 2011م ضد مبارك ونظامه كان الثوار والمتظاهرون بمن فيهم الإخوان المسلمون يتحدثون عبر كل أجهزة الإعلام عن الثورات الشعبية التي حدثت في تونس وليبيا واليمن وتحدث في سوريا وتحدثوا عن انتفاضات وثورات شعبية حدثت في كثير من أنحاء العالم في مختلف الحقب والعهود، وذكروا من بينها الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر ضد لويس، وذكروا انتفاضات شعبية أخرى ولكنهم أهملوا تماماً السودان ولم يستشهدوا بثورة أكتوبر عام 1964م ولا انتفاضة رجب إبريل في عام 1985م أي، أن السودان بالنسبة لهم يعتبر نسياً منسياً وتجاربه عندهم لا يعتد بها. وبعد إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في مصر وفوز دكتور محمد مرسي في انتخابات رئاسة الجمهورية تحدث عدد من أركان النظام عن عدة تجارب إسلامية معاصرة في الحكم ينبغي النظر إليها بعين الاعتبار واستدلوا بالتجربة التركية والتجربة التونسية الوليدة ولكنهم لم يذكروا التجربة السودانية، وطيلة العام الذي حكموا فيه كانت العلاقة بينهم وبين النظام الحاكم تبدو فاترة وهذا ما يبدو على الاقل في الظاهر. ولعل مرد هذا الفتور الظاهري أن الحركة الإسلامية الحاكمة في السودان أعلنت استقلالها عن نظيرتها الحاكمة في مصر منذ أواخر ستينيات القرن الماضي أي، قبل أن تحكم بعقدين من الزمان وربما تكون هناك تحفظات ظاهرية لأسباب تتعلق بعلاقة كل منهما بالخارج. وهناك ثمة ملاحظة وهي أن النظم التي تعاقبت على حكم مصر في زمن مبارك ومرسي والسيسي هناك قاسم مشترك أعظم يربطها هو إعلانها عن عدم تفريطها في مصالحها وفي أمنها المائي المصري، وهذا من حقها ولكنها تغالي وتبدي غضبها لأن السودان لا يسايرها في رؤاها كوقع الحافر على الحافر كأنه ذيل تابع لها ويصبح «كالبغل المباري الخيل» كما يقول المثل، ناسين أن للسودان وضعه الخاص ومصالحه التي قد تتوافق مع الطرف المصري أو مع الطرف الإثيوبي وقد تستدعي بعض البنود التشاور مع هذا الطرف أو ذاك، وقد يقتضي الأمر مشاورات ثلاثية ولكن في كل الأحوال فإن السودان هو سيد نفسه وليس تابعاً وذيلاً لأية جهة ومصالحه وحقوقه هي التي تحدد مساراته. وبعد الانقلاب والانقضاض على الشرعية في مصر فإن القوي الإسلامية السودانية بكل فصائلها قد تضامنت على المستوى الشعبي ووقفت مع الشرعية في مصر ولكن الحكومة ووفقاً لحساباتها أعلنت مراراً وتكراراً أن ما يجري في مصر هو شأن داخلي يخص المصريين ولم تعلن انحيازها لأي طرف رغم الوحدة العقدية والفكرية التي تربطها بأحد الأطراف، ولكن النظام الانقلابي الحاكم في مصر أخذ يتعامل مع نظيره الحاكم في السودان بحقد ولهجة فيها غطرسة وعنجهية وكأنه ولي أمره والوصي عليه وهو يريد منه أن يعلن على رؤوس الأشهاد اعترافه به ومناصرته له. وحتى لو أذعن النظام هنا ونتمنى ألا يحدث ذلك، فإن غطرسة أولئك ستزيد متعللين بحرصهم على أمن مصر من جهة الجنوب، وستسعى فلول مبارك لتصفية حساباتها مع السودان من وراء ستار عن طريق الحركات المتمردة، وإزاء هذه الغطرسة كان الكثيرون يأملون في اعتذار الحكومة بطريقة دبلوماسية لبقة عن زيارة وزير الخارجية والامتناع عن مقابلته في الوقت الراهن، ولعل ذلك يجعل نظامهم الجديد يفيق من سكرة غطرسته ويدرك أنه يتعامل مع بلد صعب المراس لا يمكن أن يساق سوق ذي رسن وأنفه راغمة في التراب لأنه لا يرضى الضيم وأنفه مرفوعة في شمم وعزة في الثريا. والغريب العجيب أن وزير الخارجية المصرى زار جوبا بعد مغادرته للخرطوم، وأعلن هناك أن موقف دولة الجنوب من نظامهم كان واضحاً أكثر وأفضل من غيرها وفي هذا طعن للسودان الذي غادره قبل ساعات!! ويطل سؤال مهم يحتاج لإجابة وهو لماذا استمر نظام الإنقاذ الحاكم في السودان أربعة وعشرين عاماً وشهرين بغض النظر عما له وما عليه، ولماذا تم التآمر على نظام الإخوان المسلمين الحاكم في مصر وإسقاطه بعد عام واحد فقط من بدء دورته؟