ما يجري في ميدنة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور، صورة من صور الانفلات والفوضى التي تعيشها بعض ولايات دارفور، وتعبير عن حالة بالغة التعقيد لوضع الدولة ومؤسساتها وهيبتها التي تضيع كل يوم.. بدأت الأحداث باغتيال أحد تجار المدينة، ومثل هذه الاغتيالات تكرَّرت خلال السنوات الماضية، قبل مجيء الوالي الحالي، وهناك عجز كبير من مؤسسات الدولة المنوط بها حفظ الأمن وحماية المواطن، سببه طبيعة تكوين وعمل هذه المؤسَّسات والأجهزة وكيفيَّة صدور القرار وعلاقته برئاساتها في الخرطوم، وتنافُر مكوِّنات السُّلطة في ما بينها، وعدم وجود تنسيق دقيق ما بين القرار السياسي والعسكري والأمني داخل لجان أمن الولايات وخاصَّة في حالة نيالا منذ فترة ليست بالقصيرة.. وظلَّت مثل هذه الأحداث تقع داخل أحياء نيالا الوسطيَّة منها والطرفيَّة، دون أن تكون هناك روادع مانعة وملاحَقة ناجعة.. ولا نعلم طيلة السنوات الماضية عن خطة تأمينيَّة صارمة وقويَّة وناجحة نُفِّذت في مدينة نيالا لمنع تكرار عمليات الاغتيالات والخطف والنهب والترصُّد للمواطنين وبعض التجار والرموز القبليَّة.. ونتيجة للحادث الذي وقع باغتيال أحد التجار المعروفين عصر الأربعاء الماضي في قلب المدينة ومعه بعض أفراد أسرته، حدثت ردود أفعال وتظاهرات أدَّت إلى مهاجمة مقر حكومة ولاية جنوب دارفور وحرق مكتب الوالي وأمانة الحكومة وعربة الوالي وسبع عربات أخرى وإضرام النار في مبنى المحليَّة ومنشآت حكوميَّة أخرى... وتقع أمانة الحكومة المحروقة على بعد خطوات قليلة يفصلها شارع من قيادة الفرقة التابعة للقوات المسلحة وهي من أقدم المناطق العسكريَّة في السُّودان، وليس ببعيد عنها مقر شرطة المحليَّة، ولم يسبق أن تمَّ مثل هذا الحادث في البلاد على طول تاريخها، ولم تهتزّ صورة الدولة وهيبتها كما حدث في نهار الخميس بمدينة تُعدُّ هي الثانية بعد الخرطوم في تعدادها السكاني وحركتها التجاريَّة وأهميَّتها السياسيَّة والأمنيَّة.. تحتاج هذه الأحداث إلى وقفة لازمة وضروريَّة وعاجلة، ومراجعات شاملة لكيفيَّة ضبط الأمن وبسط هيبة الدولة وحسن ورشد إدارة الولاية، والبحث عن قيادة سياسيَّة فاعلة ومؤثرة تستطيع تحقيق التوافق والوئام الأهلي وكبح التفلتات القبليَّة ومنع توريط القبائل في التنازعات السياسيَّة التي تحكم مسار ولايات دارفور الآن.. على الحكومة أن تُرسل حكومة مصغَّرة تتكوَّن من وزراء الدفاع والداخليَّة والحكم الاتحادي والماليَّة والعدل وجهاز الأمن الوطني والمخابرات.. ليمكثوا في نيالا مدَّة كافية حتى يستتب الأمن ويُنزع رداء الفتنة عن المجتمع وتُعاد صياغة الخطط الأمنيَّة وتُعالج كل آثار الوضع الحالي.. اسمع الكلام «الببكِّيك»!! تقول الحكومة إن الأحزاب المعارضة، خاصة تلك التي التقاها وزير المالية، لم تعارض مقترحات رفع الدعم عن السلع وتحرير الأسعار، وإنها أي هذه الأحزاب ليس لديها اعتراضات من وجهة النظر الاقتصاديَّة، لكنها تعارض هذه المقترحات من المنطلق والموقف السياسي.! ما تقوله الحكومة عن الموقف السياسي المعلن لقيادات الأحزاب المعارضة، بالضرورة كان ضد الإجراءات الاقتصاديَّة المقرر إقراراها، لكن كما تقول منسوباً للسيد الصادق المهدي، إن هذه الإجراءات من الناحية الفنيَّة لا غبار عليها وليس هناك حل آخر غيرها.. وقد عبَّرت صراحة عن موقف مشابه بعضُ الرموز الاقتصاديَّة المعارضة للحكومة مثل السيدة عابدة المهدي وزيرة الدولة السابقة بوزارة الماليَّة، ومحمد إبراهيم كبج ود. سيد علي زكي وغيرهم، وقد عبَّروا جميعهم من خلال ندوة عُقدت أول من أمس عن موافقة ضمنيَّة من حيث المبدأ على مقترحات الإصلاح الاقتصادي غير أنَّهم ألَقوا باللائمة على الحكومة وخطل سياساتها الاقتصاديَّة طيلة الفترات الماضية وتباطؤ خطوات لإيجاد الحلول الناجعة والعاجلة لمداواة علل الاقتصاد السوداني الذي يترنَّح الآن.. موقف الأحزاب المعارضة طبيعي ومفهوم من منصَّة علاقتها بالحكومة، وفي سياق الموقع الرمادي الذي تقبع فيه خاصَّة حزب الأمَّة القومي، الذي لا يمكن تصنيفه اليوم، أهو معارضة أم يمد رجلاً ويؤخِّر أخرى.. ويحاول المؤتمر الشعبي أن يهدئ اللعب مع المؤتمر الوطني ويلتقط أي إشارات تصدر عنه بالرغم من أنَّ رده على مقترحات رفع الدعم كانت ضدها وناقدة لها.. أمَّا الحزب الشيوعي وبقيَّة أحزاب اليسار، فليس بالإمكان أفضل مما هو كائن في مواقفها حيال هذه الإجراءات، وآثرت أن تعارضها على طريقتها دون أن تلوح بتصعيد وتسخين الموقف إلى درجة الخروج إلى الشارع، فقد قبلت قيادات من الحزب الشيوعي الجلوس مع وزير المالية ووعدت بالرد على مقترحات الحكومة كتابة، ولم تتسلم الحكومة رد الشيوعيين لكنهم في ما يبدو سيعبِّرون عن موقف سياسي أكثر من كونه رأياً فنياً في ما سيُتخذ من إجراءات.. لكنَّ الصوت الأبرز هو ما عبَّر عنه تحالف القوى الإسلاميَّة والوطنيَّة الذي يضم عدّة أحزاب لم تتشاور معها الحكومة ولم ترغب في الجلوس معها، وربما تكون هي الأنشط اليوم في الساحة السياسيَّة والإعلاميَّة وتسعى للتصاعد بموقفها من الإجراءات الاقتصاديَّة إلى درجة التلويح بالخروج للشارع مع مطالبة المؤتمر الوطني بتسليم السلطة والانزواء خارج الملعب السياسي.. وقال التحالف في مؤتمر صحفي لأكثر من عشرين حزباً يضمُّهم هذا التحالف، بمقرّ حزب منبر السلام العادل، إنَّ هذه الإجراءات فيها انتهاك لحقوق الشعب السوداني في الحياة الكريمة، وطالب قطاعات الشعب بمناهضة ومقاومة هذه القرارات.. وقال إنه سيكون المعارضة البديلة، في إشارة منه إلى موقف أحزاب ما يُسمَّى بالإجماع الوطني التي تضمُّ حزب الأمة القومي والشعبي وتيارات اليسار.. التي باتت بعيدة عن خط الرفض والممانعة لمواجهة ما تُعدُّه الحكومة من إجراءات.. ومقابل ذلك تظنُّ الحكومة أو بالأحرى تتباهى بأنَّها حتى اللحظة لم تجد من أيَّ طرف من الأطراف المناوئة لإجراءاتها الاقتصاديَّة وعزمها رفع الدعم عن السلع، رداً وبديلاً حقيقيّاً لما تطرحه من معالجات للأزمة الاقتصاديَّة وتظنُّ أنَّ ما يقال في وسائل الإعلام وما يُعبَّر عنه مجرد أحاديث عاطفيَّة لا أساس علمي منهجي لها! لكن مع ذلك هناك بالفعل آراء أخرى يمكن أن تتبلور في رؤية أخرى مغايرة لما في يد الحكومة... فالحكومة لا تملك رؤية صمدية وحيدة غير قابلة للمماثلة والمناظرة والمقابلة، وليس ما تطرحه هو الحل الوحيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. وفوق كل ذي علم عليم.. إذا كانت بعضُ أحزاب المعارضة تؤيِّد سراً ما تطرحُه الحكومة وتعلن مواقفها المعارضة في الهواء الطلق، فإنَّ ذلك لا يعفي الحكومة من أن تسمع لغيرهم وتصم آذانها عن سماع الكلام المُبكي والحارق.. (( السُّودان والطاقة الذريَّة عاد السُّودان بعد انقطاع لسنوات طويلة إلى المؤسَّسات الدوليَّة التي حرمه منها العداء والكيد السياسي الغربي، تم اختيار السُّودان في مجلس المحافظين بالوكالة الدوليَّة للطاقة الذريَّة، وهو أهم هيئة داخل الوكالة، فاختيار الأمين العام ووضع السياسات والتوجُّهات والقرارات والاتفاقيَّات الدوليَّة التي تنظِّم استخدامات الطاقة النوويَّة وفرق التفتيش الدوليَّة وغيرها، تتم في هذا المجلس.. وساندت المجموعة الإفريقيَّة السُّودان وقدَّمت ترشيحَه لمقعدي إفريقيا في المجلس ونالهما السودان وكينيا، وتمَّت الموافقة على هذا الترشيح في المؤتمر العام للوكالة الذي عُقد نهاية الأسبوع الماضي في جنيف.. هذا الاختيار لا يتجرَّد من بُعده السياسي الواضح، بل في الأساس نجاح سياسي للسُّودان وتكذيب لمن يدَّعي أنَّ العزلة الدوليَّة التي حاولت بعض الدول الغربيَّة فرضها على بلادنا ومحاربتها قد أتت أكلها وقطفت ثمارها، ولا بد لنا من الإشادة بوفد السودان الذي قاده الدكتور عيسى بشري وزير العلوم والاتصالات، الذي يعمل في صمت وَدَأَب وحقَّق نجاحات في مجال عمله، لم يشأ أن يخرج بها للإعلام وتحت الأضواء الكاشفة.. ويستحق د. عيسى الثناء على ما يقوم به، ومزيدًا من النجاحات..