الهجرة لها معنيان لغوي وشرعي، أمّا معناها اللغوي فهو ترك مكان ما والتوجه إلى مكان آخر سواه، ومعناها الشرعي، وهو يعني المسلم كثيراً، هو أن يترك المسلم بلاد الكفر أو الأرض التي ضُيِّق عليه فيها، ويتوجَّه إلى أرض يقدر فيها على إقامة شرائعه وشعائره الدينية، ويجد فيها حرية العبادة والاعتقاد، ولهذا المعنى جاءت دعوة القرآن الكريم حاثة على الهجرة، قال تعالى «إن الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها».. شهد العالم منذ الأزل والتاريخ الغابر هجرات عظيمة وشهيرة غيَّرت معالم الأشياء على أديم الأرض «وجهها»، وأحدثت تغييرات هائلة في الطبيعة الديمغرافية للسكان فنشأت عنها أوضاع إيجابية وأخرى سالبة ارتبطت بالظلم والقهر والتعدي على الحقوق والتهجير القسري وربما الإبادة والتطهير العرقي الكلي كمثل الذي جرى للهنود الحُمر السكان الأصليين لأمريكا، وكالذي جرى لسكان سراييفو والبوسنة والهرسك على أيدي الجناة والمجرمين من الصرب ومثله التقتيل والتضييق الذي يعانيه المسلمون السنة في إيران، خاصة إقليم الأهواز، والقهر والظلم والإبادة التي يواجهها أهل الأرض الحقيقيون في فلسطين وقد اغتُصبت منذ 1948م مروراً بسنة 1997م إلى يومنا هذا من قبل اليهود بمساعدة الأمريكان وبريطانيا التي ارتكبت أخطر جريمة في تاريخ البشرية لأنها أنشأت دولة صهيونية عنصرية إرهابية في ديار الإسلام سمحت بتطبيق جريمة الاغتصاب منذ سنة 1917م «وعد بلفور» ومن الدهشة هي تتشدق بالديمقراطية وكفالة الحريات وحقوق الإنسان، ولذلك نطالب بريطانيا مرة أخرى أن تعتذر رسمياً عن جريمتها النكراء تلك! ارتبط مصطلح الهجرة ومعناها العام في وجدان المسلمين بهجرة المصطفى لسيادة النبي محمد صلى الله عليه وسلم تلك الهجرة التي غيَّرت معالم حياة البشرية إلى حياة أفضل سمتها العدل والإخاء وحفظ الحقوق والذمم وصون الأعراض والأموال والعقول والأنفس وحقن الدماء ورعاية حقوق الإنسان المسلم والكافر، ولذلك هي حملت البشارة والسلام والأمان وأحدثت إصلاحاً اجتماعياً واقتصادياً وحضارياً خلص البشرية من قيودها والأغلال التي كانت عليها وأزال عنها إصرها وحرمانها، وأشاع النور والهدى والطمأنينة وحق العيش الآمن في حياتها، ولذلك كانت هجرة طيبة مباركة حققت أهدافها الإنسانية والدينية والحضارية ولذا قادت إلى حركة الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي حققت الإشباع والكفاية وصهرت المجتمع حين قامت على إثرها دولة الإسلام «دولة النبوة» في المدينةالمنورة «طيبة» التي ظلت بخيرها إلى يومنا هذا لا يدخلها الدّجال أبداً في آخر الزمان، ولذلك «من شاء أن يموت بها فليمت» حديث شريف. للهجرة بجانب معناها الشرعي الذي ذكرناه آنفاً لها دواعٍ وأسباب أخرى تؤدي حتماً إلى الهجرة منها الكوارث الطبية مثل الزلازل والبراكين والجفاف والتصحر والحرائق والسنامي «الجزر والمد» والسيول والفيضانات، ومنها عوامل يتسبب فيها الإنسان مثل الحروب وتدهور البيئات صحياً وسوء استغلال الموارد وتفشي الأمراض الفتاكة، كما أن هنالك أسبابًا للهجرة تتصل بظروف سياسية جراء الاستبداد السياسي والقهر والجبروت والتضييق على الحريات، ومنها ما يتصل بظروف اقتصادية يخرج المهاجر ساعياً لتحسين وضعه الاقتصادي والاجتماعي ومنها ما يتصل بطلب العلم خاصة العلوم النادرة التي لا توجد في ديار المسلمين. الهجرة نوعان وكلتاهما وافدة، هجرة داخلية تكون من إقليم أو ولاية إلى ولاية الخرطوم أو من البادية والأرياف إلى المدن والحواضر وتكون أيضاً من الولايات إلى المركز «العاصمة» طلباً للعمل أو العلاج أو التعليم أو السياحة وغيرها، ومسار هذه الهجرات الداخلية تصاحبها آثار اقتصادية واجتماعية قد تكون ضارة جداً منها ترك مواقع الإنتاج «الزراعة والرعي» ولها مبرراتها أيضاً منها ضعف خدمات الصحة والتعليم والمياه والكهرباء وبل انعدامها أحياناً في مناطق كثيرة من الريف والبادية وهذه هي السمة الغالبة «انعدام التنمية المستدامة» في تلك المناطق. نحن في السودان في هذا الوقت الراهن نعاني من تدفق هجرة خارجية وافدة علينا بصورة مستمرة ومطردة من دول الجوار ودول أخرى، وهذا هو النوع الثاني من أنواع الهجرات، وفي تقديري بما أننا في السودان هاجر كثيرٌ من إخواننا وأبنائنا إلى شتى أنحاء الدُّنيا فأفادوا هناك واستفادوا منهم من قفل راجعاً ومنهم من فضل البقاء وثوى هناك علينا أيضاً أن نقبل بتوافد الآخرين علينا من خارج بلادنا، غير أنه من تعقد مسار الدولة الحديثة وتقلب أوضاع المجتمعات و ما تشهده من تحولات، وتطور أساليب الجريمة المنظمة وتدهور الأوضاع الاقتصادية نحتاج إلى إعادة النظر في منهجنا القديم في معالجة تبعات الهجرة الوافدة إلينا، لقد ظهرت في بلادنا ثقافات غريبة وتحولات اجتماعية سالبة فظيعة، لأننا صرنا نقبل بهجرة عشوائية غير مقننة وعجزت قوانين الدولة الحالية على مواجهته، إن الذين يهاجرون إلينا الآن شباب وأطفال أحداث «صغار» السن من الجنسين لا هم خبراء، ولا هم مهرة بل عالة بعضهم منهم حمل إلينا الأمراض والأسقام الفتاكة التي صارت تنخر في عظم المجتمع الذي أوشك أن يتهاوى، وأحدثوا تغييرًا ديمغرافيًا غير إيجابي، ورفعوا سوق العقارات والإيجارات وأثروا في حركة السوق الشرائية، وأثروا في تدني الأجور ورغم ذلك لهم دور خطير في إخراج النقد الأجنبي من السودان إلى بلدانهم وتلك آثار اقتصادية واجتماعية وخيمة سوف تنتهي إلى الأسوأ ما لم تتحرك الدولة وتنتبه وتسن قوانين مانعة توقف هذا العبث. إن على المجتمع أن ينهض بمسؤولياته تجاه نفسه وبلده أن يعمل على صون قِيمه والعض على عناصر هويته ومرجعيات دينه وقِيمه الراكزة، إن مواجهة الهجرة الخارجية الوافدة السالبة لأننا نظن أن هناك قوى شريرة تقف وراء هذا التدفق غير الطبيعي على حدودنا التي صارت باباً واسعاً للغاشي والماشي والجوعان والعشمان وإن سلمنا بهذه الفرضية التي يرددها كثير منا علينا أن نتذكر قول المتنبي حين قال: لولا المشقةُ ساد الناسُ كلُّهم الجودُ يفقرُ والإقدامُ قتَّالُ.