تروج في مصر هذه الأيام مجموعة من الأساطير التي بات تفكيكها ضرورياً لاستعادة الوعي وترشيده. كي نخلص الحقائق من ركام الخرافات والأوهام. (1) أحد أشهر تلك الأساطير تتمثل في شيوع الاعتقاد بأن الحل الأمني كفيل بإنهاء الأزمة الراهنة في مصر، الأمر الذي يعني أن الصراع الحاصل لن يحله غير الجيش والشرطة، ويعني أيضاً أن العقل السياسي سوف ينحى جانباً ويُمنح إجازة مفتوحة، وأن إدارة الصراع ستتكفل بها الأجهزة الأمنية والمحاكم العسكرية، محروسة بقانون الطوارئ، وبالمدرعات والأسلاك الشائكة. كأننا بصدد شعار يقول: الاستئصال والقمع هما الحل. ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن ذلك ليس شعار المؤسسة والأجهزة الأمنية فحسب، ولكنه تحول إلى هتاف يومي تردده شبيحة الوضع المستجد، الذين مارسوا قدرًا مشهودًا من الإرهاب الفكري الذي لم يسلم منه كل من سوّلت له نفسه أن يدعو إلى تفاهم يحكم العقل والمصلحة، ويقود البلد إلى بر السلام والأمان، إذ لا يكاد ينطق واحد بشيء من تلك القبيل حتى تنفتح عليه أبواب الجحيم، فيتهم بالخيانة والإرهاب ويتعرض لمختلف صور الاغتيال المعنوي والتكفير السياسي، ومن ثم صارت القضية المحورية التي شغلت هؤلاء وفتحت شهيتهم للاجتهاد هي كيف يتم الاجتثاث، وكيف تحقق الإبادة غايتها. كان الدكتور زياد بهاء الدين نائب رئيس الوزراء قد استخدم في مرة وحيدة تعبير الحل السياسي، فشاهدت مذيعًا تليفزيونيًا يقرأ تصريحه بقرف شديد ويعيد الكلمات وهو يمصمص شفتيه، ويعرب عن الاستياء والدهشة من جرأة الدكتور زياد على التفوه بمثل هذه الكلمات «الخارجة» التي أقحمت السياسة في الموضوع حتى إنه شك في أن يكون الرجل قد تفوه بهذه الكلمات، وقال إنه إذا كانت قد صدرت عنه فعلاً، فإن صاحبنا المذيع لم يستبعد أن يكون قد فعلها وهو في حالة غير طبيعية! «كأن يكون قد شرب حاجة صفرا مثلاً!» في 15/10 الماضي نشرت صحيفة «لوموند» الفرنسية مقالة تحت عنوان «مصر وثمار القمح المسمومة»، كتبته أستاذة جامعية خبيرة بالشأن المصري هي سوفي بومييه وقد أيدت فيه دهشتها من استمرار التعويل على الحل الأمني في مصر. وقالت إن الاستبداد أرسى نموذجًا ثنائيًا للحكم يقوم على طرف قامع وآخر مقموع، بحيث إن مصر لم تعد تعرف نموذج المساومة والحوار. وهو تقييم أكثر ما ينطبق على المرحلة الراهنة، صحيح أن الخطاب السياسي ما برح يشير إلى استبعاد فكرة الإقصاء. إلا أن البديل المطروح في هذه الحالة لم يكن الاحتواء، لكنه الإبادة والاجتثاث. أدري أن ثمة كلامًا كثيرًا ينبغي أن يقال في شأن الحل السياسي، الذي له أجواؤه وشروطه، إلا أنني لم أجد مبررًا للخوض فى هذا الشق لأنني أزعم أن إرادة ذلك الحل ليست متوافرة فى الوقت الراهن، وأن ثمة أطرافًا فى دائرة القرار لا تزال تعول على الحل الأمنى، رغم مضي أربعة أشهر على اختباره وثبوت فشله وارتفاع تكلفته. «2» الأسطورة الأخرى التى كادت تتحول إلى مسلمة في خطابنا الإعلامي على الأقل تتمثل في الادعاء بأن الولاياتالمتحدة منحازة إلى الإخوان وتضغط وتتآمر لإعادة الدكتور مرسي إلى السلطة، وهى من تجليات التبسيط والتسطيح الذى يعتبر أن كل من ليس مع مصر هو ضدها. وهو ذلك التبسيط الذى أقنع البعض بأن أوباما شخصيًا وليس شقيقه فقط على علاقة بتنظيم الإخوان الدولي، وأنه ثمة أخونة للإعلام الألمانى، وأن جريدة الجارديان البريطانية أصبحت من الصحف الصفراء، لمجرد أن كل هؤلاء لم يقفوا إلى جانب النظام فى مصر، ولم يرددوا ما تنشره الصحف القومية المصرية وقنوات التهليل التليفزيونية. هذا الادعاء لا يصدقه أحد خارج مصر، والدبلوماسيون الذين أعرفهم يعتبرونه أمرًا مضحكًا يتعذر أخذه على محمل الجد ويصفونه ضمن مظاهر التهريج السياسي والإعلامي، وقدوقعت على نصين نشرتها جريدة «الشروق» فى الآونة الأخيرة تكفلا بتفنيد المقولة وتكذيبها، الأول للسفير إيهاب وهبة مساعد وزير الخارجية الأسبق للشؤون الأمريكية «نشر فى 2/11 تحت عنوان أخطاء شائعة حول المساعدات الأمريكية» والثانى للكاتب الباحث محمد المنشاوى المقيم بالولاياتالمتحدة، والذى يراسل جريدة «الشروق» من هناك. وقد نشرت له الجريدة فى 25/10 مقالة تحت عنوان: كلمات منسية فى الأزمة المصرية الأمريكية. ما كتبه الخبيران يصعب تلخيصه لأنه تعرض لمختلف عناوين العلاقات بين البلدين، مع ذلك فبوسعى أن أقول إنهما حرصا على إبراز ثلاث نقاط هى: * أن العلاقات بين القاهرةوواشنطن لم تكن فى أحسن حالاتها أثناء حكم الدكتور مرسى، فالإدارة الأمريكية ظلت تدعوه طوال فترة حكمه إلى تحقيق التوافق مع مختلف فئات الشعب وفى خطبة له فى أول يوليو الماضى قال الرئيس أوباما إن الديمقراطية لا تنحصر فى إجراء الانتخابات وإنما أيضًا فى كيفية تعامل الحكم مع قوى المعارضة، كما أن الرئيس الأمريكى لم يحرص على لقاء الرئيس المصرى حين ذهب إلى نيويورك لإلقاء كلمة مصر أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة فى شهر سبتمبر 2012. وهو من قال فى حوار تليفزيونى جرى بثه فى منتصف شهر سبتمبر عام 2012. أنه لا يعتبر المصريين بمثابة حلفاء، لكنه لا ينظر إليهم باعتبارهم أعداء. وكانت تلك هى المرة الأولى التى ترد فيها كلمة «الأعداء» فى قاموس العلاقات المصرية الأمريكية. * إن ما يقلق بالولاياتالمتحدة ليس عزل الدكتور مرسى لكن ما يزعجها حقًا أمر أن أحدهما إقصاء جماعة سياسية بقوة وثقل جماعة الإخوان. وثانيهما افتقاد مصر إلى ديمقراطية تشمل الجميع وحكومة مدنية منتخبة تعبر حقًا عن ديمقراطية الاحتواء. الفكرة رددها جون كيرى وزير الخارجية الأمريكى حين زار القاهرة هذا الأسبوع. * إن أكثر ما يهم واشنطن فى نهاية المطاف ليس بالضرورة عودة الإخوان إلى السلطة. وإنما عودة الاستقرار إلى مصر على نحو يحفظ للولايات المتحدة نفوذها ومصالحها فى قناة السويس والمجال الجوي المصري والتعاون الاستخباري. (3) الأسطورة الثالثة تتلخص فى الادعاء بأن مصر تستطيع أن تستعيد عافيتها من خلال الاعتماد على المعونات والقروض الخارجية. وهو ما نلحظه فى الانزعاج من احتجاز واشنطن لمبلغ 360 مليون دولار من المعونة السنوية التى تقدم إلى القاهرة، ونلاحظه بصورة أكبر فى هرولة المسؤولين المصريين والوفود الشعبية نحو الدول الخليجية، التى سارعت إلى مساندة النظام المصرى المستجد. بالمقابل فإننا لم نلحظ توجهًا جادًا لمخاطبة الشعب المصرى لاستدعاء طاقاته وتوظيفها للإسهام فى استعادة عافية الاقتصاد وتحريك مياهه الراكدة. الأمر الذى يسوغ لنا أن نقول إن التطلع إلى الخارج فى حل المشكلة الاقتصادية لايزال متقدمًا كثيرًا على جهد الاستعانة بالداخل. اللقطة الكاشفة فى هذا الصدد تمثلت فى اللغط الذى أثير فى وسائل الإعلام المصرية فى أعقاب نشر تصريح للشيخ منصور بن زايد نائب رئيس الوزراء في دولة الإمارات العربية نسب إليه قوله إن على مصر أن تعتمد على نفسها فى تقوية اقتصادها من خلال حلول مبتكرة وغير تقليدية، وإن الإمارات حريصة على إنجاح الشراكة الاقتصادية معًا، إلا أن استمرار المساعدات إلى ما لا نهاية يبدو خيارًا غير منطقي، وهو ما اعتبرته في حينه نصيحة مخلصة من رجل دولة مسؤول أراد أن ينبه إلى أن دولة كبيرة مثل مصر تعداد سكانها 90 مليونًا لا تستطيع أن تعتمد فى اقتصادها على المعونات الخارجية خصوصًا أنها تنفق كل أسبوع سبعة ملايين دولار على الاستيراد من الخارج، وأنها مدينة الآن بما يعادل 2 تريليون جنيه، تدفع عنها فوائد سنوية بما يعادل 240 مليار جنيه، بمعدل مليار جنيه لكل يوم عمل. هذا التصريح تم نفيه بعد نشره فى وسائل الإعلام. وحين رجعت إلى الدكتور حازم الببلاوى رئيس الوزراء الذى كان وقتذاك فى زيارة لأبوظبى على رأس وفد اقتصادى حكومى، فإنه نفى صدور الكلام عن الشيح منصور بن زايد، وقال إنه هو من عبر عن ذلك المعنى حين قال إن اقتصاد مصر لن يتعافى إلا استنادًا إلى سواعد أبنائها، إلا أن تصويب الدكتور الببلاوى لم يوقف اللغط الإعلامى «لم تشر إليه وسائل الإعلام». ذلك أننى تابعت حوارًا جرى بثه تليفزيونيًا، حرص مقدموه على التأكيد على أن الإمارات سوف تستمر فى دعم الاقتصاد المصرى إلى أن يتعافى. وكأنما تلك كانت الرسالة التى أريد لها أن تصل إلى المشاهد المصرى. وهو ما علقت عليه بالتساؤل عما إذا كانت تلك الرسالة تطمئن المشاهد أم تؤرقه وتقلقه. «4» الأسطورة الرابعة تتمثل فى الاعتقاد بأن إسرائيل تقف على مسافة من المشهد المصرى وأنها تقوم بدور المتفرج عليه. وذلك وهم كبير. إذ رغم أن إسرائيل تتكتم على دورها المباشر وغير المباشر فى الأحداث التى شهدتها مصر قبل الانقلاب، إلا أن دورها مشهود فى الدفاع عن النظام المصرى فى مجلس الشيوخ وفى كواليس البيت الأبيض، ومنشور على الملأ انتقادها للقرار الأمريكى الخاص بحجب جانب من المعونات الاقتصادية، استلفت انتباهي في هذا الصدد ما كتبه واحد من أبرز الكتاب الإسرائيليين رون بن يشاي المعلق العسكري لموقع واي نت، وقال فيه إن على إسرائيل عمل المستحيل لإنجاح الانقلاب، الذى حدث فى مصر، لأسباب ثلاثة عرضها على النحو التالي: إن الانقلاب سمح بنشوب حرب ضد كل الذين يحاولون إعادة الإسلام إلى صدارة العالم. إنه جعل مصر على رأس الدول التى تخوض مواجهة مفتوحة ضد قوى الجهاد العالمى التى تهدد مصالح إسرائيل. إفشال الانقلاب يعني حرمان الغرب من تمتع الطيران الحربي من استخدام الأجواء المصرية والتوقف عن منح حاملات الطائرات الأمريكية الأفضلية لدى الإبحار في قناة السويس، وهو ما يشكل أيضًا ضررًا بالمصالح الإسرائيلية. أضاف رون بن يشاي إنه لأجل ذلك يتعين على الغرب أن يضخ مليارات الدولارات لمنع حدوث انهيار اقتصادي في مصر يؤجج مشاعر السخط والغضب ضد حكم العسكر. وفي رأيه أنه من المهم للغاية أن يركز الاستثمار في البداية على دعم الجيش والأجهزة الأمنية التي تتولى مهمة قمع المتطرفين. وقد ختم تعليقه بقوله إن إسرائيل يجب ألا تخجل من دورها في دعم حكم السيسي، لأنها بذلك تقوم بنفس الدور الذي تؤديه دول الخليج والأردن. ليست هذه كل الأساطير الرائجة في زماننا، ولكن القائمة طويلة لأن الأجواء المخيمة ما برحت تطرح لنا أسطورة جديدة بين الحين والآخر، وربما تتيح لنا التطورات المتلاحقة أن نعود إلى الموضوع مرة أخرى.