تعاني مادة تعليم الزكاة من قلة العناية برصد الأشباه والنظائر في الأمثلة المقدَّمة للطلاب، كما تعاني من ضعف تحليل المعطيات. ويندر أن تجرى في سياق هذه المناهج موازنات ومقارنات بين هذه المعطيات. وإذا علمنا أن التعليم الحديث قائم على أساس الموازنة والمقارنة، وعلى تحفيز الطلاب على التدقيق في التحليل، مع الانتباه لجوانب التشابه والاختلاف، وتقدير المزايا والصفات، فسنرى كيف وكم يُحجم الطلاب عن التفاعل مع مفردات دراسية، تتجانف عن اتخاذ هذا الأسلوب الحديث في التدريس. سيطرة اللغة التراثية كما تعاني مناهج تدريس مادة الزكاة في الجامعات من استيلاء اللغة التراثية عليها، مع ميل إلى الحشو والاستطراد الوعظي المغرق في النزعة العاطفية في كثير من الأحايين، الأمر الذي يغلب الخطاب الدعوي الجهير على المنطق الأكاديمي الرصين، وهذا خطاب قد يأتي بعكس المأمول منه، لأن الطالب غدا في عصر الانفجار العالمي في العلم والمعلومات، يحتاج أكثر ما يحتاج إلى المعلومات المنسقة جيدًا، وإلى الخطاب الذكي الماهر، أكثر مما يحتاج إلى الخطاب المتأجج العاطفي. ويلاحظ على مناهج تدريس الزكاة بالجامعات، أنها تستخدم في بعض الأحيان، تقسيمات وتقديرات غير مألوفة للطلاب، خاصة الحضريين منهم. والسبب هو أن هذه التقديرات راعت في أصلها الطابع الرعوي والزراعي والتجاري للمجتمعات القديمة، وهي مختلفة في أصلها كثيرًا عن المجتمعات العصرية، التي تشعبت موارد الزكاة فيها تشعبًا شديدًا، واتخذت مناحي لم تكن مألوفة من قبل، ولم تكتب عنها كتب الفقه التي سطرها قديمًا الفقهاء العظماء القدامى، الذين اعتنوا بتنزيل فقه الزكاة وفقًا لأحوال وعوائد تلك الأيام. استئناف البناء ولا تعني هذه الملاحظة أن التقديرات الفقهية القديمة لا قيمة لها من حيث الأصل، ولا هي ملاحظة نقدية منصبة على تراثنا الفقهي الجليل من أي وجه. وإنما هي إشارة لازمة إلى أنه لا بد من استئناف واستكمال البناء الفقهي الجديد على التقديرات الفقهية القديمة، والعمل على إنشاء التقديرات الحديثة المناسبة لمصارف الزكاة، التي ينتظر أن يؤديها الناس اليوم. فالكثير منها موارد ظهرت في العصور الحديثة، ولم تكن معهودة في الدهر القديم. ويلاحظ على مناهج الزكاة، أنه يركز أحيانًا على متبنّيات وإفادات وفتاوى مذهب فقهي منفرد. وهذا عيب منهجي بيِّن، فكون أن غالبية السودان من أتباع المذهب المالكي، لا ينبغي أن يكون ذريعة إلى إهمال مقررات المذاهب الفقهية الأخرى. كما أن الدراسة على المستوى الجامعي ينبغي أن تكون واسعة المدى وعميقة الغور. وذلك يستلزم النظر بعين الاعتبار إلى مقررات المذاهب الفقهية المختلفة، من أجل الأخذ بالأقوى والأرجح، حسب الدليل الشرعي، الذي يدعم هذه المقررات، وبغض النظر عن المذهب الذي انبثق منه الرأي، أو الإمام الذي نطق بهذا الرأي. وكما يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي ف: إذا أريد لنظام كالزكاة أن يوضع موضع التنفيذ في دولة عصرية مسلمة، فلا بد من التخيُّر من أقوال الفقهاء، ما يكون أقوى حجة، وأقرب إلى مقاصد الشرع، وروح الإسلام. فبهذا تستكمل الحكمة، وتتناسق الخطط والبرامج، ويتأتى التطبيق السليم. لا داعي للجفاف ويلاحظ على تدريس مادة الزكاة على المستوى الجامعي، أنها تعاني من صفة الجفاف، فهي تكاد تهمل النواحي المقاصدية الروحية والاجتماعية لهذه الفريضة الاقتصادية، وذلك مع أن هذه المقاصد المعنوية بارزة واضحة في نص آية الزكاة. قال الله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ». التوبة 103. قال الإمام الفاضل بن عاشور، رحمه الله: التزكية جعل الشيء زكيًا، أي كثير الخيرات. فقوله: «تطهرهم» إشارة إلى مقام التخلية عن السيئات. وقوله: «تزكيهم» إشارة إلى مقام التحلية بالفضائل والحسنات. ولا جرَم أن التخلية مقدمة على التحلية. فالمعنى أن هذه الصدقة كفارة لذنوبهم ومجلبة للثواب العظيم. فاستصحاب أمثال هذه التفسيرات المقاصدية الحكيمة لآي القرآن جدير بإيضاح الآثار الروحية والاجتماعية لفريضة الزكاة إلى أذهان الطلاب، وتحبيب المادة إليهم، وتقريبها من مدار شعورهم. ضيق النطاق المنهجي ويلاحظ على تدريس مادة الزكاة على المستوى الجامعي أنها تتسم بضيق النطاق المنهجي الذي تقدم فيه، حيث تقدم المادة منزوعة مما يمكن أن يسمى بالتاريخ الاجتماعي الاقتصادي، أو تاريخ العدالة الاجتماعية ومبادئ حقوق الإنسان. والأجدر أن تدرج مقدمات هذه المادة في سياق التاريخ الإنساني، لتبيان سبق الإسلام في موضوع الاهتمام بحقوق الفقراء والمساكين وأولي الحاجات المختلفة، وتوضيح نظرة الدين الإسلامي للإنسان، عى مستوييه الفردي والاجتماعي، وتمكينه من أخذ حقوقه، إن كان فقيرًا مسكينًا مستضعفًا، من الأغنياء، وإلزام الأغنياء بذلك إلزامًا، من أجل تحقيق وتلبية أحد أركان الإسلام الخمسة الكبرى. ويمكن على سبيل الاستطراد في الشرح والإيضاح، ومن أجل تأكيد المعنى وترسيخه، موزانة ومقارنة ما جاء به الإسلام من فتح تاريخي غير مسبوق، في هذا المجال، مع ما كان يلاقيه المعوزون في العالم الغربي على وجه الخصوص من إهمال المشرعين الاجتماعيين والقانونيين، وذلك إلى العقود الأولى من القرن العشرين، حيث أطل نذر الثورات العمالية، التي هددت بتعطيل النمو الرأسمالي المجحف بحقوق الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمعات الغربية، وحينها فقط انبه الغرب إلى ضرورة إقامة برامج الضمان الاجتماعي، لرفع الغبن عن المستضعفين وكبح جماح الثورات. وهنا يمكن الاستعانة بنصوص من الدراسات الفلسفية والاجتماعية، القديمة والحديثة والمعاصرة، لتبيان انحيازها التلقائي لصالح الأغنياء على حساب الفقراء. وهو ما كان يحدث طوال التاريخ الإنساني، الذي شهد في غالب مفاصله إهمال شأن الفقراء وتضييع حقوق المعوزين.