في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي حدثت تباينات في وجهات النظر بين حاكم وبعض أركان حكومة كردفان وبين الأستاذ يوسف كوة وهو مسلم ومعلم سابق بالمدارس الثانوية ومن خريجي جامعة الخرطوم، وقد انتُخب عضواً بمجلس الشعب الإقليمي وبحكم تأهيله اختير رئيساً لإحدى لجان المجلس، وعندما حدث الخلاف أُعفي من رئاسة اللجنة وتبعاً لذلك سُحبت منه العربة الحكومية وأُخرج من المنزل الحكومي الذي كان يقيم فيه ويبدو أن هذا حز في نفسه وأحس بالغبن وأعطى المسألة أبعاداً أخرى وتعاطف معه آخرون من أبناء النوبة وقرر كرد فعل غاضب أن ينضم للحركة الشعبية ويلحق بقرنق وجماعته «والنار من مستصغر الشرر» وسبقه ولحقه آخرون وتكاثرت أعدادهم بعد ذلك وعزف محرضوهم على التمرد على أوتار عاطفية دغدغوا بها مشاعرهم مرددين أن جبال النوية مظلومة ومهمشة واستفادت القيادة الجنوبية للحركة الشعبية منهم وجندتهم وأمدَّتهم بالسلاح وأضحوا من مقاتليها، ولا ينكر أحد أن لجبال النوبة قضايا فعلية ومطالب عادلة في قسمة السلطة والثروة والخدمات والتنمية المتوازنة ومنذ أكثر من أربعة عقود خلت كون أبناء جبال النوبة تنظيمًا سياسيًا لنهضة تلك المناطق كان رئيسه هو البرلماني العريق الأب فيلب عباس غبوش الذي كان عضواً في الجمعية التأسيسية الأولى والثانية في الديمقراطية الثانية وفي التعددية الحزبية الثالثة اتخذوا اسماً جديداً هو الحزب القومي السوداني وفاز الأب فيلب في دائرة الحاج يوسف بالخرطوم وفاز في دوائر جبال النوبة عدد من الشباب المثقفين من ابناء النوبة وتقلد أحدهم وهو الأستاذ أمين بشير فلين موقعاً وزارياً في احدى التشكيلات الوزارية، ورغم أن المسلمين يمثلون أغلبية كبيرة في جبال النوبة إلا أن النوبة في الجبال وفي كل أنحاء القطر بكل مللهم ونحلهم كانوا يحترمون الأب فيلب ويعاملونه معاملة الأب وبروحه الفكهة وطريقته الدرامية ودعاباته كان يشد انتباه المستمعين في خطبه الجماهيرية العفوية وكان تنظيمهم السياسي يقود عملاً سلمياً ولم تنطلق منهم رصاصة واحدة في يوم من الأيام. وفي الجزيرة حدثت زيجات ناجحة كثيرة ومصاهرات واختلطت الدماء بين سكانها وبين النوبة الذين استقروا فيها، وشهدتُ مرة الاستقبال الحاشد والحفاوة التي قوبل بها الأب فيلب من النوبة وغيرهم من مواطني المنطقة في احدى زياراته للجزيرة، وقد عرف النوبة في جنوب كردفان بأنهم منتجون جادون في مجال الزراعة وتربية المواشي ويقيمون احتفالات في مواسم الحصاد وسير البقر ولهم عاداتهم وتقاليدهم وفنونهم الشعبية ولهم صفوة من المتعلمين والمثقفين المحترمين. وعرف النوبة بأنهم مسالمون وأن عدداً كبيراً من المعلمين والموظفين والتجار الذين عملوا بجبال النوبة يؤكدون أن النوبة مسالمون وإن من كان يخالطهم قبل ظهور جيوب التمرد وحملة السلاح كان يمكنه أن يتجول بمفرده ليلاً من جبل لآخر لحضور مناسبة اجتماعية وهو في حالة اطمئنان تام لأن السلام كان يعم كل الجبال. وقد استفادت الحركة الشعبية من الذين انضموا اليها من ابناء النوبة ولكن حصيلة ما جنوه من ثمرات انضمامهم للحركة الشعبية هو تدمير البنيات التحتية وتقتيل وترويع الآمنين وزعزعة الزراعة والمزارعين وتعطيل المحالج وتدمير كثير من المشروعات الزراعية. وبعد توقيع اتفاقية نيفاشا في عام 2005م، ركزت القيادة الجنوبية للحركة الشعبية على الجنوب فقط وأهملت جبال النوية إهمالاً تاماً ولم تعرها اهتماماً ولم تمنحها حتى فتات الفتات من نصيب الجنوب من عائدات النفط من باب الوفاء، وقد احتج عدد من أبناء النوبة على نكران الجميل والجحود الجنوبي تجاه النوبة الذين كانوا منخرطين في الحركة الشعبية وكان على رأس هؤلاء المحتجين القائد تلفون كوكو أبو جلحة الذي تم اعتقاله هناك ولا يزال قيد الإقامة هناك بعد اعلان الإفراج عنه. وبعد انفصال الجنوب واقامة دولته المستقلة رفضت القيادة العامة الجنوبية لجيش الحركة الشعبية أن تفض علاقتها بالفرقتين التاسعة والعاشرة الشماليتين وتريدهما أن يكونا شوكة مسمومة في خاصرة وطنهما الأم السودان وأرادوا أن يكون المتمردون من النوبة تحت إمرتهم ليقاتل النوبة بعضهم بعضاً ويصبحوا محرقة لتحقيق حلم أولاد قرنق باقامة السودان العلماني الجديد. وفي الفترة الانتقالية بعد توقيع اتفاقية نيفاشا تم اقتسام السلطة مناصفة بين حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية في ولاية جنوب كردفان وتبادل الطرفان موقع الوالي وقبل إجراء انتخابات الوالي والمجلس التشريعي التي جرت قبل أكثر من عامين تقريباً صرح بعض شواطين الإنس الذين لا علاقة لهم بالمنطقة «يا النجمة يا الهجمة» وهذا هو ذات الشعار الذي طرحوه قبل ذلك في النيل الأزرق وفيه ديكتاتورية وعنجهية واستبداد وتهديد بالفوز قهراً أو الهجوم على الآمنين وقتلهم غيلة وغدراً، وقد اشتدت المنافسة واحتدمت المعركة الانتخابية الساخنة وفاز مرشح حزب المؤتمر الوطني بموقع الوالي في ولاية جنوب كردفان ونافسه نائبه السابق مرشح الحركة الشعبية منافسة حادة وحصل على أصوات كثيرة لا يستهان بها وفاز حزب المؤتمر الوطني بثلثي أعضاء المجلس التشريعي الولائي وفازت الحركة الشعبية بثلث اعضاء المجلس أي إن لها وجودًا وإن تلك النتيجة كانت تشير إلى أن تلك الولاية الفتية لها وضع استثنائي خاص كان يقتضي أن يضع الجميع السلاح ويرفعوا أغصان الزيتون ويطلقوا حمامات السلام في الأجواء ويتفقوا على تعيين مرشح الحركة الشعبية في موقعه السابق نائباً للوالي مع تشكيل حكومة ائتلافية وتقسيم المواقع الوزارية والتنفيذية بطريقة نسبية ومن ثم يتفرغ الجميع لإعادة تعمير ما تم تدميره في سنوات التمرد والعمل على نهضة الولاية ولكن المؤسف أن الأوضاع اتخذت مساراً آخر والجميع يلمون بتفاصيله. وأما في النيل الأزرق «والنار من مستصغر الشرر» خرج بعضهم من السودان وانضموا لحركة التمرد بقيادة قرنق، ومن أوائل من خرجوا وانضموا لحركة التمرد مالك عقار الذي كان يعمل معلماً بمرحلة الأساس وعمل بعد ذلك أمين مخازن، ولملابسات تتعلق بعمله خرج متمرداً، وبعد سنوات طويلة عاد بعد توقيع اتفاقية نيفاشا وعمل وزيراً للاستثمار وبعد إجراء انتخابات الوالي أُعلنت النتيجة بطريقة غامضة وتولى مالك عقار منصب الوالي وتعامل معه رئيس الجمهورية والقيادات العليا في الدولة بكل لطف واحترام، وكان المتوقع أن تتم عملية تحالف وتكامل بين مكونات الولاية من أجل النهوض بها ولكن عقار كان سفيانياً ومظهرياً ولم ينفذ للب القضايا بل انصرف للقشور وأقام قصراً منيفاً للثقافة دون أن يقدم للثقافة شيئاً يُذكر ولم يهتم بالإنتاج والمنتجين والخدمات وبدد الأموال والموارد في تعيين جيوش ضخمة من المستشارين والدستوريين بلا مهام تذكر وأقنعه بعض شواطين الانس بأن مكانه الطبيعي الذي يليق به هو القصر الجمهوري في موقع النائب الأول لرئيس الجمهورية خلفاً لسلفا كير، ولذلك أخذ يتطاول على رئيس الجمهورية ويردد أن له قصراً ولرئيس الجمهورية قصرًا وله جيش ولرئيس الجمهورية جيشًا، وأخذ هو والقلة التي معه يطالبون الحكومة والمؤتمر الوطني بالجلوس للتفاوض معهم وهم يدعون أنهم يمثلون الجنوب الجديد ويتحدثون باسم المهمشين في كل أرجاء القطر ويريدون أن تصل معهم الحكومة لاتفاقية مماثلة ومطابقة لاتفاقية نيفاشا ولما لم يجدوا استجابة تمادى عقار أكثر وحمل السلاح فتم دحره واجتمع المجلس التشريعي للولاية وبطريقة لائحية وإجرائية صحيحة عزله عن موقعه بأكثر من ثلثي أعضاء المجلس. وبعد الانفصال وقيام دولة الجنوب أضحت قيادة الحركة الشعبية في العاصمة جوبا والذين كانوا منخرطين معهم في حركتهم من الشماليين لم تعد لهم عضوية هناك وإذا أرادوا ممارسة نشاطهم الحزبي بالسودان فإن عليهم الالتزام بعدم حمل السلاح وممارسة نشاطهم سلمياً كما تنص على ذلك قوانين ولوائح تسجيل الأحزاب وعليهم أن يسجلوا تنظيمهم وحزبهم بنفس الإجراءات التي اتبعها قبلهم كل الذين سجلوا أحزابهم ليتسنى لهم بعد ذلك ممارسة نشاطهم السياسي ولهم الخيار بعد ذلك في معارضة النظام الحاكم أو موالاته ونيل نصيبهم من كعكة السلطة كما فعل آخرون غيرهم وفي كلتا الحالتين فإن الطريق أمامهم يصبح ممهداً لخوض الانتخابات القادمة في كل مستوياتها بعد توفيق أوضاعهم عند مسجل الأحزاب ولكن محاولة اقتسام السلطة في كل مستوياتها «بالفهلوة» واتخاذ مفاوضات المنطقتين طريقاً لتحقيق هذا الغرض مع اتخاذ موطني تلك المناطق محرقة للوصول إلى أهدافهم فهذا أمر ينبغي أن يكون دونه خرط القتاد. وبالطبع انهم يجدون سند «الخواجات» والقوى الأجنبية التي خاب رجاؤها في القوى السياسية المعارصة في الداخل وفارقتها «فراق الطريفي لي جملو» وتعول على أولئك الذين دعمتهم مالياً ولوجستياً دعماً كبيراً وأمروهم بالتحالف مع الحركات الدارفورية المتمردة الحاملة للسلاح وضمهم تجمع كاودا ومن ثم اقاموا الجبهة الثورية مع اتخاذ التحالف المعارض أحد أذرعهم المساندة رغم فقدانهم للثقة فيه وعدم التعويل عليه كثيراً وتمخض جبلهم وولد فأراً فيما عرف بميثاق كمبالا الذي ولد ميتاً ولعل القوى الأجنبية قد خاب ظنها فيهم جميعاً ولذلك فإنهم يجوبون الآن أوربا وغيرها سعياً للدعم بغية القيام بغارات عسكرية غادرة هنا وهناك لن تعدو أن تكون إذا حدثت لا قدر الله مجرد فرقعات إعلامية وكل هدفهم من هذه «الجقلبة» بين الخواجات هنا وهناك هو الضغط «على الحكومة لتجلس وتفاوضهم والتوصل معهم «لينفاشا جديدة» أما قضايا المنطقتين فهي لا تعنيهم ويتخذونها مجرد منصة انطلاق انتهازية لتحقيق مآربهم وإن الرئيس سلفا كير قد ضاق ذرعاً بأوهام وأحلام أولاد قرنق جنوبيين كانوا أو شماليين لفرض برنامج ما يسمى السودان الجديد العلماني وسلفا كير انفصل بدولته ولا يهمه بعد ذلك برنامج سودان جديد أو سودان قديم. ونأمل أن يعم الوئام والسلام ويستتب الأمن بين الدولتين الجارتين وتحترم كل واحدة منهما خصوصية الدولة الأخرى وألا تتدخل في شؤونها السيادية الداخلية أملاً في تعاون مستمر وتبادل للمصالح بين البلدين. وأن المنطقتين لهما قضايا حقيقية ورشحت أنباء بأن السفير حاج ماجد سوار سيقود وفد المفاوضات من جانب الحكومة وهي خطوة في الاتجاه الصحيح إذا تمت لأنه من أبناء جنوب كردفان الواطئين على جمر قضيتها ونأمل أن يكون الطرف الآخر أيضاً من أبناء المنطقة ويمكن لعبد العزيز الحلو أن يشارك في المفاوضات وينطبق هذا على أبناء النيل الأزرق ويمكن لمالك عقار أن يشارك في المفاوضات كابن من أبناء المنطقة وليس بأي صفة أخرى لأن الجبهة الثورية غير معترف بها وإن قطاع الشمال لم يسجل عند مسجل الأحزاب. ونأمل أن يركز الطرفان على ضرورة نزع السلاح واستتباب الأمن ودمج القوات المتمردة في القوات النظامية الرسمية أو إيجاد بدائل معيشية لمن لا يتم استيعابهم في تلك القوات مع التركيز في المفاوضات على الخدمات والتنمية وأخذ المنطقتين لحقهما في السلطة والثروة. ونعم لإنصاف المنطقتين ولا للمتاجرة بقضاياهما ولا لاتخاذ أبناء المنطقتين محرقة من أجل تحقيق أهداف الآخرين.