يا ترى لماذا يخشى كثيرٌ من الناس الإصلاح؟ هل الإصلاح قيمة حاضرة في تفاصيل حياتنا أم هو نغمة ترددها الشفاه دون جدوى؟.. من هم دعاة الإصلاح؟ النُّخبة والمثقفون أم الجماهير؟ أم الاثنان معاً؟ وما هي أدواته ووسائله؟ وهل له نقطة ينتهي عندها أم هو عملية متجددة ومستمرة وفقاً لحاجات الإنسان المتطورة؟ ولماذا الغلبة في الإصلاح يقصد بها الشأن السياسي والاقتصادي بالرغم من أن مفهوم الإصلاح يتراءى لنا أنه مصطلح ذو مفهوم شامل؟.. هل الإصلاح ثورة عارمة أم تغيير متدرج هادئ يراعي الأحوال والمظان؟ الإصلاح من المصطلحات التي عُرفت قديماً وشاعت في تاريخ الفكر العربي والإسلامي وتاريخ الإنسانية قاطبة، خاصة فيما يتصل بحركات الإصلاح الديني التي مثلتها النبوات المتصلة التي تنزلت لإصلاح حياة البشرية الأخلاقية والاجتماعية والفكرية من لدن آدم أبو البشر عليه السلام إلى محمد رسول الله خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وعلى قرابته وصُحبته. إن أول من قاد حركة الإصلاح الديني والاجتماعي هم الأنبياء والرسل وكان الإصلاح يتضمن أيضاً إصلاح النواحي الأخلاقية والعقدية والاقتصادية والسياسية والفكرية، باعتبار أن مدلول مصطلح الإصلاح شامل وعام يغطي جوانب الحياة كافة وعلى هذا النحو بعث الله الأنبياء والمرسلين مبشرين ومنذرين ومعلمين للبشرية ومُخلّصين لها من آلام الدنيا وعذابات الآخرة والتخبط في طريق الحياة الطويل.. وإذا كان الإصلاح بمدلوله اللُّغوي يعني أنه ضد الفساد والإفساد في الكون والحياة وحاجات الإنسان، فإننا من هنا ندرك أن عملية الإصلاح عملية شاقة ومستمرة ومطلوبة في كل زمان ومكان مع أهمية وجود الإصلاح في النظم كافة الاجتماعية منها والسياسية والاقتصادية والدينية والفكرية والثقافية والأدبية أيضاً والتربوية، ومن هذا المدخل أيضاً ندرك سر تتابع وتوالي النبوات والبعثات الرسولية من السماء إلى الأرض، وذلك لحاجة الإصلاح المستمرة لأحوال البشرية. وإذا كان الأنبياء والمرسلون جاءوا جميعاً بالإسلام وفي مقدمة أولوياته إصلاح حال العقيدة والأخلاق لخُلوص العبادة لله ربَّ العالمين، فإن هذه الرسالات أيضاً حملت في طياتها معالجات وحلولاً لقضايا شائكة وُجدت في حياة البشرية واختلفت أزمانها وأماكنها وأشخاصها، وهذا أيضاً يفسر لنا سر اختلاف شرائع الأنبياء والمرسلين ومناهج إصلاحهم وإن اتحدت الأهداف والمقاصد الكلية، حيث واجهت نبوة نوح عليه السلام بجانب إصلاح العقيدة، معالجة الانحرافات الفكرية وهي تبعية الآباء والأجداد على غير هدى وبصيرة، وواجهت نبوة إبراهيم عليه السلام طغيان الضلال الشعبي الجماعي وطغيان الملك البشري المتأله عند النمرود بن كنعان، وواجهت نبوة لوط عليه السلام انحرافاً اجتماعياً جماعياً في الفطرة الإنسانية وهو إتيان الذُكران من العالمين، وواجهت نبوة شُعيب عليه السلام ظاهرة اقتصادية وهي ظاهرة الغش والتطفيف في الميزان والمكيال وأكل أموال الناس بالباطل وإضاعة الأمانات، وواجهت نبوة كليم الله موسى ووزيره أخيه هرون عليهما السلام ظاهرة الاستبداد والطغيان السياسي العظيم الذي مثله فرعون مصر ووزيره هامان والملأ من حاشيته ورجاله ومساعديه الفاسدين الذين استخفهم فرعون فاتبعوه حميةً وإمعةً ورهبة، فأوردهم دار البوار، حين صور لهم نفسه إلهاً وملكاً لا يُقهر.. فيا عجبي من إله يأكل ويشرب ويتغوط!! وانشغلت نبوتا داؤود وابنه الذي ورثه سليمان عليهما السلام بعد التوحيد بقضية العدل ونزاهة القضاء والفصل بين الخصوم بعدل ونزاهة وأمانة، ولعل هذه من أعظم الأمانات التي أمر الله تعالى بتحقيقها في حياة الناس، لأن العدل أساس الحكم، ولا تقوم الحياة إلاّ به، ولا يحصل الأمن الاجتماعي ولا الاستقرار السياسي ولا النماء الاقتصادي ولا الشهود الحضاري بغيابه، ولذلك تدوم دولة الكفر والشرك إن أقامت العدل وتنهار وتضمحل دولة الإسلام الفاسدة القاهرة الظالمة والمستبدة وإن رفعت شعار الإسلام الحركي وأذّنت به على رؤوس الشعب ليلاً ونهاراً، لأن نصر الله وتأييده لا يتحقق إلاّ مع العدل، وأن تمكين الله لعباده في الأرض لا يقع إلاّ بإقامة العدل، وأن تبديل حياة الناس من الخوف والحرب إلى الأمان الاقتصادي والسّلام الاجتماعي لا يتنزل من السماء إلاّ بإحقاق العدل والاستقامة على توحيد الله وعبادته. ثم جاءت نبوة محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي صلى الله عليه وسلم شاملة وكاملة وكافية ومهيمنة وخاتمة معنية بأوجه الإصلاح مستغرقة دلالة معناه ومعممة لفلسفة تنزيله، داعية إلى بقائه واستمراره، مؤكدة بشدة على حيويته وأهميته. وأفرد القرآن الكريم مساحة واسعة لذكر مصطلح الإصلاح إشارة بالمعنى ولفظاً كقوله تعالى «إن أُريد إلاّ الإصلاح ما استطعتُ وما توفيقي إلاّ بالله» وهذه الآية الكريمة تشير إلى أمرين مهمين هما أن الإصلاح يتطلب استطاعة تمكِّن طالب الإصلاح من ذلك وهو أمرٌ متوقف على توفيق الله وعونه مع خلوص النية وتوفر العزيمة والإرادة، والأمر الثاني في تقديري.. إن ورود «إنْ» بمعنى «ما» النافية مع الفعل المضارع في صدر الآية يشير إلى مسألة مهمة تُفهم من سياق اللغة أن الفعل «أريد» محصور في «الإصلاح» ولا شيء غيره وأن الفعل المضارع دالٌ على الاستمرار «أُريد» مّما يعني أن الإصلاح عملية مستمرة ودائمة في كل زمان ومكان كما أشرنا إلى ذلك من قبل، وعملية الاستمرار في تنمية الأشياء تتطلب ضرورة فقه التدرج في تنزيل وسائل الإصلاح وأدواته على الأحوال والأمكنة والنظم سواء أكانت نُظمًا اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية وحتى الدينية كذلك. والإصلاح يقترب من حيث دِلالته المعنوية من النقد سواء أكان نقداً ذاتياً أم نقد الآخر، غير أن النقد ربما لا يتعدى الحيز النُّطقي والخطابي سراً وعلانية، بينما يتجاوز الإصلاح الحيز النطقي والخطابي إلى الميدان العملي ببذل الوسع والطاقة والجُهد لتحصيل الإصلاح في ناحية ما.. وبهذا البعد في المقارنة يمكن أن نقرر أن الإصلاح أوسع دائرة من النقد وأشمل في الفكرة والمقاصد، وأعمق في الدِلالة والمعنى. وإذا قررنا أن الإصلاح ينبغي أن يكون شاملاً، وينبغي أن يكون دائماً ومستمراً، وينبغي أن يكون متدرجاً يراعي الحال وفقه الزمان والمكان، فإن هذه الفرضيات تقودنا أيضاً إلى تجزئة ذات الإصلاح، حيث هناك إصلاح داخلي وهو إصلاح النفس، وإصلاح خارجي وهو إصلاح الجماعة وإصلاح عام وهو إصلاح الدولة ومؤسسات الدولة في النظام السياسي.. مثل مؤسسات الحكم والإدارة، ومؤسسات التشريع والحقوق والرقابة، ومؤسسات القضاء والعدالة، ومؤسسات التعليم والتربية، ومؤسسات التخطيط وبناء الكفاءات. وإن كنا قد أكدنا أن الإصلاح عملية شاملة للنظم كافة إلاّ أنه يطغى في زماننا هذا عند ذكر مصطلح الإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي وهذا ما سنناقشه بعون الله وتوفيقه في مقالٍ آتٍ إن شاء الله.