كنت قد تحدثتُ في المقال السابق عن تخبط السياسة الخارجيّة السودانيّة، والتي لم تستفد من إمكانات الأصدقاء، ولعل فهم الصداقة بالنسبة للدبلوماسية السودانية هو تبادل الابتسامات والزيارات، وإطلاق شعارات الصداقة التي لم تبحر بالعلاقات بين البلدين بل ظلت تراوح مكانها، رغم أن المراقب لهذه العلاقات يرى ذلك المجهود الخارق الذي بذله السفير أتوربيك فاضليانوڤ، والتحركات الماكوكية بين الوزارات والمؤسسات والمدن السودانية ولهذا الجهد كرّمته رئاسة الجمهورية أيما تكريم. السفير الروسي قدم سفراً هاماً بعنوان «حوار الحضارات روسيا والعالم الإسلامي» وقد جاء الكتاب ليصف الدور الروسي والذي هو بمثابة جسر بين أوروبا الغربية والشرق الإسلامي العربي. روسيا دولة تضم جمهوريات إسلامية يبلغ تعدادها حوالى الثلاثين مليون نسمة وهم يحملون جوازات سفر روسية وهم روسيو الجنسية وليسوا وافدين عليها كما هو الحال في أروبا الغربية، كما أن المسيحيين في روسيا وهم أغلبية هم ارثوذوكس أي أن الكنيسة في كل من روسيا والشرق العربي واحدة!! هكذا ارتبطت روسيا بالشرق العربي الإسلامي والمسيحي وكانت بحق الجسر بين الغرب والشرق العربي إسلامياً كان أم مسيحياً. روسيا تدرك تماماً أهمية الشرق بالنسبة للعلاقات الروسية العربية. فالزيارة التاريخية لمصر التي قام بها سيرجي لاڤروڤ وزير الخارجية وسيرغي شويفو وزير الدفاع، بعد انقطاع دام عشرين عاماً. من المعروف أن الثقافة والعقيدة العسكرية للجيش المصري مهما حاولوا تغييرها فهي ما زالت تراوح مكانها فهي عقيدة قتالية روسية. إن مصر تحتاج لسلاح جديد ومهما كانت العلاقات بين مصر وأمريكا فلن تنال مصر منها ما يجعلها دولة قوية في المنطقة فأمريكا لا تريد في المنطقة قوة أكبر من إسرائيل. مصر تذكر جيداً حرب «73» والتي انتصر فيها الجيش المصري مستخدماً السلاح الروسي لذلك نجد الجنرالات يجددون اهتماماتهم بالمعدات العسكرية الروسية ومنها مروحيات «مي 17» ومنظومة صواريخ «تور ام 1 و«بوك إم 2» ومقاتلات «ميج 29» و«سو 30» وطائرة التدريب «ياك 130» كما أن الاهتمام ينصب حول تحديث الأسلحة القديمة المتوفرة لدى الجيش المصري الذي ألمح بإمكانية إنتاج بندقية كلاشكنوف، وقد عبّرت مصر عن رغبتها لشراء سلاح بقيمة أربعة مليارات دولار!! إن الخطوة الروسية لا سابق لها حيث نظمت لقاءات بين وزيري الدفاع والخارجية للبلدين، روسيا لم تقدم على مثل هذه الاتصالات من قبل حتى مع أقرب حلفائها الصين والهند. يرى المحللون السياسيون أن السلطات الجديدة في مصر توجهت بنداء إلى روسيا بحثاً عن دعم لوقف التدهور في المنطقة، وكما كانت جسراً منع التدخل عسكرياً في سوريا، فإن روسيا على قدرة للقيام بخطوات جدية. إن لروسيا مصالح في المنطقة وهي معنية بوجود نقاط ارتكاز بحرية في المنطقة، فالسفن الروسية لا تغادر البحر الأبيض المتوسط في السنوات الأخيرة، وقد عبّرت مصر عن استعدادها لمناقشة إنشاء قاعدة روسية جديدة على سواحلها وهذا يحل مشكلات الأسطول الروسي في البحر المتوسط في حال إغلاق القاعدة الروسية في سوريا كما أن روسيا تحتاج لحرية العبور لقناة السويس. قبل أكثر من عام كنت قد تقدمت بمقترحات كهذه، يقدمها السودان لتقوية وتوطيد العلاقات بين البلدين، وقد ذكرت أن شاطئ البحر الأحمر الذي يمتد بطول سبعمائة وستين كيلو متراً صالح في كثير من الأماكن للقواعد البحرية، ذكرت أن هذا هو الطريق لتقوية العلاقات الروسية السودانية، وقد ذكرت أن مجرد وجود قاعدة كهذه سيجعل إسرائيل تكف عن قصف السيارات في السودان والعدوان على المواقع العسكرية السودانية! كما أن العلاقات بين السودان وروسيا يمكن أن تنمو اقتصادياً عبر السكة حديد داخل وخارج الحدود السودانية، كما أن خط داكار بورتسودان والذي يمر بالسودان بنسبة 40% من طوله يمثل رابطاً إسلامياً قوياً بين غرب إفريقيا وجزيرة العرب.. إن لروسيا والسودان دوراً كبيراً في ربط إفريقيا بالمشرق العربي اقتصادياً وعقائدياً وعسكرياً، وكما أن روسيا أثبتت أنها جسر بين أوربا والشرق العربي الإسلامي فإن السودان يمكن أن يكون جسراً بين إفريقيا وروسيا!! فهل تستفيق السياسة الخارجية السودانية؟!!