يخلط بعض أصحاب الهوى بين مساري الأمن والسلام، ويقول قائلهم بأن الحركات المسلحة قد حمل أصحابها السلاح بحجة أنهم مظلومون سياسياً واقتصادياً وتنموياً، بينما أن ذات الحاملين للسلاح يدمرون البنية التحتية ويروعون المواطن بنفس المناطق التي كان الزعم والادعاء بأنهم يستهدفون رقيه وسلامته، وحظه في الثروة والمتعة، وهنا يكمن التناقض. وفي المقابل هناك من يقول إذا كانت الحكومة قد فتحت قلبها للتفاوض حول السلام، فلماذا تجيش الجيوش وتحشد الآليات الأمنية في مواجهة الحركات المسلحة؟ والذي يتبنى مثل هذا القول يود من الحركات المسلحة أن تفعل ما تريد بالمواطن ومؤسساته تشريداً وتدميراً، بحيث تبقى الحكومة متفرجة بائعة للسلام مقابل التخريب والتخويف، وهذا القول لا يستقيم إلا إذا كان قائله من أصحاب الغرض والمرض أومن أولئك الذين يلوون عنق الحقائق، أومن يدعون رؤية الشمس، لكنهم في حقيقتهم فاقدو بصر وبصيرة، وعديمو ذمة وضمير. والأمن كما نعلم وطيد العلاقة ووثيق الصلة بالاقتصاد وسبل كسب العيش والحفاظ على الأرواح والممتلكات، وإلا لما كان قول الحق تبارك وتعالى رابطاً بين الأمن والجوع، «الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ». «قريش، آية 4» أما السلام فلا يرفع من أجله سلاح ولا يصلح معه قول أوفعل مستفز، ذلك لأن السلاح حامله يستهدف القتل والذي يدافع عن نفسه إما أن يكون قاتلاً أومقتولاً، وإذا كان السلام غاية نبيلة للحركات المسلحة، فكيف تجرؤ على تجنيد الأطفال والمغامرة بحياتهم؟ وما هي دوافعها عندما تقطع الطرق وتنهب القرى؟ وما هي علاقة السلام بمهاجمة المدنيين وإرهابهم وإجبارهم على ترك ديارهم؟ وفرق شاسع بين القوة الضاربة لاستتباب الأمن والسلام الذي تحرسه القوة، فالقوة هي قوة السلام وليست سلام القوة، والسلام حتى عندما يكون تحية قولية، لا بد من ردها بأحسن منها، أو على الأقل بمثلها. والحكومة عندما تقبل بالمفاوضات إنما هي تتخذ أسلوب الاستماع للطرف الآخر، وتقدير وجهة نظره دون إغفال لموضوع من شأنه أن يقود نحو الجنوح للسلم، ودون التمييز بين جماعة وجماعة، وبذلك تكون الحجة مقابلة للحجة، ومن ثم يصبح الحل العادل هو الذي ترتضيه الأطراف مرشداً نحو طريق السلام وتحقيق أهدافه. والحرب التي طال أمدها بين الشمال والجنوب، لم تضع أوزارها بآلية حرب ولكن باتفاق مشهور حدثت فيه تنازلات وانسحابات لم تفلح آلية الحرب أن تصل إليها بالرغم من الفرق الشاسع بين الحرب في جنوب السودان، وما يفعله حملة السلاح بجنوب كردفان ودارفور، إذ كانت حرب الجنوب بين الجيش السوداني والتمرد المسلح، ولم يكتب تاريخ تلك الحرب عبارة واحدة حول تخريب جرى، أوتدمير حلَّ لقرى جنوب السودان بفعل المتمردين آنذاك بقتل أهلهم، وكان التمرد آنذاك في مواجهة جيش، وليس كما يفعل المتمردون الآن ممن يسمون أنفسهم قطاع الشمال أو الجبهة الثورية، والذين يا للحسرة يفتكون بأهليهم، ويغتصبون ممتلكاتهم، ويدفعونهم قسراً لاختيار النزوح والهجرة. كما يقول الله سبحانه وتعالى: «هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار» «الحشر، آية 2». والذين ينادون بترك حملة السلاح يسرحون ويمرحون بتبرير واهٍ مفاده وجوب التفاوض معهم، حتى وإن سعوا إلى اضطراب الأمن، وتوغلوا في استخدام أسلوب العصابات وقطع الطريق، فإن مثل تلك المناداة لا تتسق مع أبجديات وأسس التفاوض، وعندئذ لا تكون النهايات إلا بضرب السلام وأهدافه في مقتل، وآلية الأمن ينبغي ألا تكف الحكومة عن استخدامها، وليس ذلك أمراً شاذاً وإنما هو العرف السائد، في جميع دول العالم ومجتمعاته، بمثل ما تضطلع الشرطة الاتحادية والولائية في بلدان تتبنى ما يسمى بالنظام الديمقراطي بدور محوري لتهيئة الأجواء لحياة آمنة بتقفي آثار المجرمين وملاحقتهم، وتوجيه الضربات الموجعة لهم، ليس تشفياً، وإنما حفاظاً على حياة المدنيين، وعملاً من أجل استتباب النظام، ووصولاً إلى ما يقود نحو الطمأنينة. فإذا خططت مجموعة في الولاياتالمتحدةالأمريكية لارتكاب جريمة، فإننا لا نجد من يدعي أن تلك المجموعة قد ارتكبت جرمها من أجل السلام، بل نجد إجماعًا مطلقًا من المواطنين الأمريكان، مطالبين بالقضاء على مثل هذا الجرم بالقوة التي لا هوادة فيها، وهي قوة لحفظ الأمن والتمهيد لإحقاق السلام. والذين يخلطون بين الجهود المبذولة للاستقرار الأمني ببلادنا، وبين السلام، قد يدفعهم نحو ذلك الجهل على أقل تقدير، ومما هو مؤكد أن للأمن مساراً يقتضي استخدام القوة حسماً وحزماً، وأن للسلام مساراً آخر يلتقي فيه الرأي بالرأي وبين هذا وذاك لا توجد المتشابهات، وعلى الذين يخلطون بين المصطلحين اتقاء مثل تلك المتشابهات، «عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: «إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».