منذ العام الماضي، وفي نفس هذا التوقيت لم يتوقف الجدل بشأن التقاوي الفاسدة التي وصلت البلاد في شهر (21) من العام المنصرم والمزارعون وقتها قد زرعوا، يعني: (ما لحقت الموسم).. لكن جهات حكومية وجهت بأن تبقى البذور في المخازن لتُزرع في موسم هذا العام، وقد لحقت بهذا الموسم لكنها لم تنبت والبعض يقول الإنبات ضعيف واتضح أنها تقاوي مضروبة، والبعض يقول إن سوء التخزين هو الذي أفسد التقاوي، ثم ظهر جدل كثيف حول مسؤولية التجاوز المالي والفني الذي أهدرت بسببه (01) ملايين دولار قيمة هذه التقاوي، مبلغ ضاع من خزينة السودان. بالأمس أوردت صحيفة الرأي العام على صدر صفحتها الأولى أن تشريعي الجزيرة رفض تقرير لجنة تقصي تقاوي القمح، وكشف رئيس المجلس عبد الباقي التهامي ما أثير حول تقاوي القمح بمشروع الجزيرة وقال إن المساحات التي كان مستهدفًا زراعتها هذا الموسم (003) ألف فدان، كما جاء في الخطة التأشيرية لكنها تقلصت إلى (042) ألف فدان بنسبة 42% وما تم ريه بالفعل (04) ألف فدان أي 31% من المساحات الكلية. «طيب» حتى الآن يقال إن المشكلة سببها التخزين وهي التي أدت لكل هذه الأضرار، واللجان تقوم وتقعد ولم يحاسب أي من الجهات التي تسببت في سوء التخزين غير السليم للتقاوي؟؟ حتى الآن كل الأطراف سواء كانوا المزارعين أو اتحاداتهم أو المجالس التشريعية أو البرلمان توقفوا عند محطة المطالبة بضرورة محاسبة الجهة المتسببة في الضرر.. قضية التقاوي الفاسدة ضربة موجعة في جسد الاقتصاد الوطني، وتتطلب البحث بعمق وصدق خارج الصندوق المعروف لهذه القضية، والإجابة عن السؤال ما هو المستفيد من وراء هذه الصفقة المضروبة؟ وهو السؤال الأشد مرارة لأن القضية متعلقة بشركة تركية، ومعروف أن تركيا التي تجتهد للدخول في النادي الأوربي لا تلعب بسمعتها وكل الأنظمة التي تتبعها في مثل هذه الحالات فيها مواصفات عالية، وأي تلاعب كالذي اتبع في عملية التقاوي يقود إلى قطع الرقبة كأشد عقوبة، ولا أعتقد أن تكون تركيا الآن قد تجاهلت هذه القضية، وفق معلومات فإن الأوراق والمستندات على تربيزة رئيس الوزراء والجهات المختصة. واضح هناك مستفيد غير منظور في هذه اللعبة هو الذي كسب وألحق بالآخرين كل هذه الخسائر المعنوية والمادية، أقول هذا وإنني على ثقة تامة في الشق الفني، وأحسب أن فنيي وزارة الزراعة والبنك الزراعي قد عملوا ماعندهم من أمانة علمية ودراية فنية في هذه القضية كما أن البنك الزراعي السوداني الذي ظل منذ زمن طويل يأتي بالعينات ويعطيها الجهات الحكومية والشركات، وله سمعة طيبة لا يمكن أن يطيح بهذه السمعة بين يوم وليلة مثله والمؤسسة التركية للزراعة التي ليست لها مصلحة مباشرة في هذه القضية، وبمثل ثقتنا في أمانة تركيا نثق ولا نشك في سمعة البنك الزراعي السوداني، لكن علينا أن نبحث عن الذي تسبب في إيصال هذه البذور الفاسدة للسودان، وهنا لابد أن يكون التفكير خارج الصندوق الذي أضلاعه وزارة الزراعة والفلاحين واتحادهم وتركيا وشركاتها، ولا بد أن نقفز الى مثلث آخر ونصوب النظر جيداً، خاصة أن كفاءاتنا الفنية نفسها مشبعة بروح الخدمة المدنية الجالسة والثقة السودانية وطيبة إنسانها. هذه البذور شراؤها تم في عجالة العام الماضي للحاق بالموسم الزراعي حتى عندما طلب السودان أن تكتب الديباجات باللغة العربية رفضت الشركة التركية بأن الزمن المتبقي لا يكفي لذلك ولعملية ترحيل الكمية المطلوبة وإجراءات الموانئ فاضطر السودان للموافقة على أن تأتي هذه البذور ومواصفاتها مكتوبة باللغة التركية، وهذه قضية أخرى لم تكن منظورة أن تأتي البذور بوضعها الراهن في تركيا بالطبع الأتراك لا يمكن أن يجازفوا بسمعتهم، وهم يطبقون أعلى معايير الجودة الأوربية لكن ربما الكسل المكتبي هنا عندنا في السودان واكتفاء الكادر الفني بالحديث العاطفي للجهة التي قامت بعمليات الشحن والترحيل، واكتفوا بلذائذ الهدايا التركية والشيكولاتة، ولم يجتهدوا في تطبيق المعايير الفنية الدقيقة والفحص المعملي المتكامل لكل الكمية الواردة للبذور واكتفوا فقط بالعينات العشوائية التي جُهِّزت لهم، وهي بالطبع تمام وفق العينة المطلوبة، لكن البقية هي التي فيها الخدعة التي رمت المسؤولية على سوء التخزين!. من حق الوزير أن يستقيل وربما هو بريء ونظيف مثله مثل الكوادر الفنية، ولكن كشف الستار عن هذه القضية الوطنية يُعتبر مسؤولية وطنية يحاسب عليها الضمير، وهي ليست مسؤولية فردية تعني بالوزير أو خضر جبريل وهو مسؤول التقاوي والمبيدات الذي أصر عليه المتعافي وهو الذي أشرف على هذه الصفقة، لا بد من أن تتحرك كل الأجهزة والمراقبين للكشف عن الشخصية الوسيط الذي جلس في منتصف المساحة وخدع الجميع وسجل هذا الهدف القاتل الذي عقوبته تصل حد الإعدام، لا بد من معرفة الشخص المتسبب طالما أن السودان ليس له مصلحة في أن تصله تقاوي مضروبة، وتركيا هي الدولة الأحرص على سمعتها وتراقب أداء شركاتها في السر والعلن حتى لا تخدش ممارساتها سمعة بلادها. لا بد أن يتأكد للجان التحقيق أن اللجان الفنية كانت قد أخضعت كل هذه البذور الواردة إلى معمل فني للتطابق مع المواصفات الفنية للسلعة المطلوبة، نقول هذا وإنني أدرك أن الحكومة ورقتها التي تدافع بها عن نفسها هو الورق وما يحتويه من صحة إجراءات وأنه مر بكل الجهات والإجراءات لكن الدقة في عمل المعامل وإخضاع أي منتج قادم من الخارج للمواصفات أثناء شرائه وترحيله واستلامه في الميناء أمر مطلوب بإلحاح وإلا فما الذي يمنع أن يتم التلاعب أثناء الشحن أو داخل البحار؟ ويظل المزارع والمواطن والإعلام يسألون وزير الزراعة وهيئات بحوثه المسؤولة عن الفلاحة بأن يكشف للرأي العام الذي تسبب في هذا الخطأ الذي أدى لعدم إنبات هذه التقاوي ولا بد من تحقيق موضوعي وفوري عن هذه الخسائر الفادحة والمتلاحقة للقطاع الزراعي. وبما أن السلعة إستراتيجية وتتصل بصورة مباشرة بأمننا القومي لا بد من أن يتأكد فعلاً هل هذه التقاوي قادمة من تركيا؟ أم أنها جاءت من جهات أخرى عبر تركيا؟ كما أن حالة التمدد السياسي على حساب الخبرات وسمعة الكوادر الفنية السودانية لا بد أن يوقف حتى لا يضعف هذا الجانب.