تنعقد في هذه الأيام بالولايات مؤتمرات عامة تنشيطية لحزب المؤتمر الوطني، وتنعقد أيضاً على المستوى الاتحادي مؤتمرات تنشيطية لقطاعات الحزب. وفي مؤتمر القطاع الثقافي والفكري والاجتماعي تحدث البروفيسور إبراهيم أحمد عمر أمين القطاع واعترف بشجاعة يشكر عليها بأنهم فشلوا في أداء واجباتهم والقيام بمهامهم علي الوجه المطلوب، وطالب بتنحيتهم واختيار غيرهم. ومن لهجته يبدو أنه غير راضٍ عن قيادة الحزب لأنها لم توفر لهم كل المعينات المطلوبة، أو لعلها صرفت عليهم أقل مما صرفته على قطاعات أخرى، وحديثه على وجه الدقة كان موجهاً لنائب الرئيس لشؤون الحزب، ومن المفارقات أنه كان يرأسه تنظيمياً عندما كان يعمل أميناً عاماً للمؤتمر الوطني قبل إجازة قانون التوالي وتسجيل المؤتمر حزباً، وفي مرحلة لاحقة أضحى الآن مرؤوساً تحته في الحزب. وفي مؤتمر القطاع السياسي طرح بروفيسور إبراهيم عدة تساؤلات وأخرج هواءً ساخناً من صدره وتساءل «هل قدناها أم جطناها في العشرين سنة الماضية؟». ونقول للبروفيسور إنكم حكمتم حتى الآن اثنين وعشرين عاماً وثلاثة أشهر وثلاثة أسابيع، ولا يمكن تقييم كل ما جرى في كل هذه السنوات الطويلة الممتدة بجمل انفعالية قصيرة تكون وليدة لحظتها. ومحكمة التاريخ هي التي ستحكم بالعدل في الوقت المناسب، وقطعاً إن كل شيء بتفاصيله وتفاصيل تفاصيله الدقيقة موثق في أضابير بعض المظنات المحفوظة في حرز أمين. وبعد وفاة الرئيس الراحل عبد الناصر كتب ونشر الأستاذ توفيق الحكيم كتابه «عودة الوعي». ونأمل أن يعود الوعي للنظام الحاكم وهو موجود، لا أن يكتب عنه بعد أن يكون في ذمة التاريخ. وما أطلقه بروفيسور إبراهيم نرجو أن يكون شرارة نأمل أن تتحول لنور يضيء قبل أن تنطلق شرارات أخرى تتحول لنار تحرق الأخضر واليابس. وإن المرء ليعحب في هذا العهد إذ يجد الشيء ونقيضه، وترى ضعفاً في المجالات الحيوية الإنتاجية «الزراعة والصناعة»، ولو استغلت عائدات البترول ووجهت لإحداث ثورة إنتاجية في مجالات الزراعة والصناعة وأضيفت لذلك عائدات التعدين والذهب والموارد الأخرى والضرائب والجمارك والجبايات الكثيرة التي جمعت من الشعب السوداني بالحق أو الباطل، فإن الحصيلة النقدية الضخمة كانت كفيلة بأن تجعل السودان نمراً اقتصادياً ورقماً مهماً في الساحة الإقليمية «ولنا في ماليزيا أسوة» للاقتداء بها لا للتخزين فيها. ولكن كثيراً من هذه الموارد ذهبت هدراً لأنها لم تستغل وتستثمر الاستثمار الأمثل، وإن ما صرف في «الفارغة والمقدودة» كان ينبغي أن يصرف على المجالات الحيوية. ومن جانب آخر تحس بقوة النظام أو بالأحرى قوة الدفاع والأمن القومي، ويجب وضع حد فاصل بين الأمن القومي وبين «تأمين النظام وتثبيت كراسي السلطة»، وقد شهد الجميع التحرشات الأجنبية الشرسة ضد السودان ومحاربته حرباً خفية عن طريق الوكلاء مع العمل على تعويقه ليظل قعيداً كسيحاً، وشهدنا المعارك والحروب الشرسة التي خاضها في الداخل ضد المتمردين في عدة مناطق وأطراف، ولو جمعت كل هذه الحروب والتحرشات الداخلية والأجنبية فإنها لا تقل في مجملها عن الهجوم الأطلسي على العراق، وكانت كفيلة بتدمير السودان، وقطعاً أن أي نظام حاكم آخر كان سيجثو على ركبتيه ويسقط منذ أمد بعيد، ولذلك فإن المرء يصاب بالحيرة عندما يقارن بين كفتي القوة والضعف في النظام وكفتي الإنجازات والإخفاقات، ويقارن بين الصفحات البيضاء والأخرى السوداء. ويمكن أن يوصف النظام بأنه «حلومر» أو كما نقول في دارجيتنا «خاتف لونين» أسود أبيض !! أما ملفات المال فإن فيها الكثير المثير الخطر، وهنا يطل سؤال بروفيسور إبراهيم «هل قدناها أم جطناها؟» ونربط هذا بتصريح أدلى به الأستاذ علي محمود وزير المالية والاقتصاد الوطني الذي ظل يتحدث عن ضرورة ترشيد الصرف تقديراً للظروف الاقتصادية الضاغطة، وفي هذا الإطار نبه منذ وقت باكر القائمين على منظمات الشباب والطلبة إلى أنهم لن يجدوا بغيتهم في الميزانية القادمة التي لا تحتمل مثل هذه الدفعيات. ومع تقديرنا لدور هذه المنظمات إلا أن السؤال الذي يطل: هل تصرف هذه المنظمات مباشرة من خزينة الدولة؟ وما هي الحدود الفاصلة بين الدولة والتنظيم؟ أم أن الفواصل قد تماهت وحدثت وحدة اندماجية لا يهم إن كانت مرئية أم غير مرئية. وفي حوار صحفي أجري مؤخراً مع الأستاذ نقد ذكر أنه لا يجد غرابة في أن يكون فلان أو علان أو فلتكان ثرياً «وذكر عدداً من أسماء رجال المال والأعمال»، ولكنه يتعجب ويحس بالحيرة لثراء بعض ذوى الدخول المحدودة وأصحاب المرتبات، فمن أين هبطت عليهم هذه الثروات؟ وهنا يطل تساؤل بروفيسور إبراهيم «هل قدناها أم جطناها»، وهناك ملاحظة أخرى تدعو للحيرة، وهي أن المؤتمرين الوطني والشعبي قد تراشقا وتبادلا الاتهامات والشتائم على رؤوس الإشهاد، ولكنهما لم يتبادلا الاتهامات في المال، وآثرا أن تظل هذه الملفات مغلقة تماماً ومسكوتاً عنها. وهنا يطل سؤال بروفيسور إبراهيم «هل قدناها أم جطناها»، وهذا هو رأس جبل الجليد، وتظل الاستفهامات الحائرة الكثيرة قائمة!!