ربما أدرك المؤتمر الوطني بولاية الجزيرة أخيرًا أنه يجلس على تل من الرمال المتحركة وأن ما بداخله من حركة جماهيرية تنشط وبشكل دراماتيكي بالقدر الذي يكافئ رغباتها واحتياجاتها التي لا غنى عنها في سبيل الحصول على حد الكفاف من مقوِّمات الحياة الطبيعية، فالقيادة العليا بولاية الجزيرة يبدو أنها أصبحت على قناعة تامة بأن شكل الانفعالات والحراك المطلبي التي بدأت تطل على السطح السياسي بالجزيرة خصوصًا من قطاعات المزارعين ومن داخل قاعدة الحزب وهي الحالة التي عبّرت عنها ما عُرفت بالمؤتمرات التنشيطية والتي يشهدها المؤتمر الوطني على مستواه العام. ولأن الجزيرة تحظى بخصوصية التعامل والنظرة العامة من المركز لاعتبارات عديدة ومعلومة أبرزها أن الجزيرة تصنف من ضمن المناطق ذات الوعي المتقدم في الشأن العلمي والسياسي والثقافي، كما أنها تحتضن أحد أهم وأكبر المشروعات الاقتصادية والإستراتيجية في المنطقة العربية والإفريقية وهو مشروع الجزيرة «طريح الفراش» الذي تلتفّ حوله القاعدة الجماهيرية الكبرى وتنظر إليه بشيء من الأسى والحزن وتطالب بأسعافه وإخراجه من غرف الإنعاش، في وقت تجاهلت فيه الحكومة تمامًا مسؤولياتها الحقيقية تجاه الزراعة والمزارعين بالجزيرة رغم البرامج النظرية والتقارير الموجبة التي تتحدث عن واقع مشرق ومستقبل أخضر أثبتت التجارب والمعطيات أن أي حديث بهذا الشكل مجرد خيال ووهم، ولهذه الاعتبارات فإن القيادة السياسية تتعامل مع ولاية الجزيرة ككيان سياسي وجغرافي واقتصادي، ولكن لا يبدو أن هذه القيادة تتعامل بمعيار القسط والعدل والمساواة بقدر ما إنه جنح لإعلاء شأن الموازنات والتسويات الداخلية وفق معايير خاصة والوقوف في محطات رمادية لا تخدم الجزيرة في شيء وهذه هي القضية التي أضاعت المشروع وأفقرت أهل الجزيرة ودفعت مجموعات كبيرة من مجتمع الولاية وتحديدًا من أبناء المناقل لاحتراف تجارة الهامش بالخرطوم هروبًا من واقع طارد وخدمات غائبة وتنمية منتهكة وهي ذات الحقيقة التي أظهرتها دراسات ومسوحات وزارة الرعاية الاجتماعية بالخرطوم. ومن بين الثنايا والهوامش التي أتاحت لرئة الحزب بالجزيرة أن تتنفس وتُخرج جماهيره هواء ساخنًا عبر المؤتمرات التنشيطية التي شغلت الوطني كثيرًا الأيام الفائتة حيث إن القاسم المشترك في كل هذه المرافعات والمدافعات بين كل القوى الحديثة والتقليدية بولاية الجزيرة هي ضرورة إصلاح حال لطالما أرهق كاهل الولاية والمواطنين بعيدًا عن اللعبة السياسية، هذا ما قالته المؤتمرات التنشيطية بلسان الباطن، بل ذهبت هذه المؤتمرات إلى أكثر من ذلك حينما دعت إلى إعادة النظر في قانون مشروع الجزيرة للعام 2005 وإجراء عملية جرد شامل لكل أوجه الكسب والفشل، ومن ثم ترتيب أوضاع إدارة مشروع الجزيرة وإخضاعها إلى التقويم والتقييم المهني والعلمي والقانوني. ولم يبتعد البروفيسر الزبير بشير طه والي الجزيرة عن حقيقة ما يجري بولايته وبالمشروع، ولكنه بات أكثر قربًا ناحية النبض الجماهيري عبر خطاب سياسي مفتوح ومشهود في مناسبة ختام المؤتمرات التنشيطية، فالدكتور نافع علي نافع كان لزامًا عليه أن يستوعب حقيقة هذه الانفعالات ويتقبلها بصدر رحب ومن ثم الاستجابة لها، وفي تلك المناسبة تحدث البروف الزبير عن قضايا الجزيرة ومشروعها كما لم يتحدث من قبل الوالي، وطالب بمعالجة أزمة الحقوق المنتقَصة من الولاية من قِبل الحكومة الاتحادية وهي التي عُرفت بالقروض الدولية خاصة القرض الصيني الخاص بمحطة مياه بتري كما حمّل الوالي الأستاذة أميرة الفاضل وزيرة الرعاية الاجتماعية أن ولايته فقيرة من مشروعات التمويل الأصغر وهذا الاعتراف قصد منه الوالي أن الجزيرة في أشد الحاجة لتوفير وظائف لأكثر من 30 ألف خريج يحملون شهاداتهم العلمية ويهيمون بها في فضاءات الهامش يحترفون العطالة من أوسع أبوابها. أما واقع مشروع الجزيرة فعبّر عنه الزبير بشير بأن العطش أحكم قبضته على المساحات المزروعة، فكم من الخسائر والتلف في المحاصيل جناها المزارعون دفعوا أموالهم وجهدهم لكنهم حصدوا السراب وقبضوا الريح وبهذا حاول الزبير إزاحة بعض الحُجُب والأستار الحديدية التي تخفي الوضع المتدهور لمشروع الجزيرة، وختم حديثه «اللهم هل بلغت فاشهد.. اللهم هل بلغت فاشهد.. اللهم هل بلغت فاشهد»، لكن المفارغة أن الدكتور نافع تجنَّب الإشارة إلى قضايا مشروع الجزيرة لا من قريب ولا من بعيد لاعتبارات يعلمها هو، لكن صمت نافع زاد من هواجس أهل الجزيرة وخلّف علامات استفهام كبيرة وظلت الشفرة في غموضها رغم أن الولاية بكاملها طالبت نافع بفك «الشفرة».