تضجُّ الساحة السياسية بالعديد من القضايا ذات الأبعاد القانونية المتداخلة... الإنتباهة جلست إلى رئيس القضاء السابق مولانا دفع الله الحاج يوسف لتحليل الرؤى القانونية لقضايا تمثل أركانًا أساسية لدولة الشمال السيادية، وقد تناول بالشرح الوافي ملامح الدستور القادم وما يجب أن يُستصحب فيه ومرتكزاته الأساسية وتطرق للضائقة المعيشية التي تمر بها البلاد ومسبباتها وكيفية علاجها، كما وصف قرار المحكمة الجنائية بأنه سياسي وسيموت موتاً طبيعياً، أيضاً أحداث النيل الأزرق وج. كردفان وتطورات الأوضاع في أبيي كان لها نصيب في المرافعة القانونية والدستورية لمولانا، كما أمّن على نجاح وثيقة الدوحة نسبة لما يعتري القارة الإفريقية من تحولات ستسهم في خلق الاستقرار بدارفور.. والعديد من القضايا الحية فإلى مضابط الحوار: حدِّثنا عن ملامح الدستور القادم كيف سيكون في تصورك القانوني وما هي مطلوباته؟ شهد السودان منذ مرحلة الحكم الذاتي والاستقلال وحتى الآن صدور عدد كبير من الدساتير كل منها يصدر في فترة زمنية معينة محكومة بظروفها التاريخية، ولكن الدستور المرتقب الآن يختلف عن تلك الدساتير في أنه يصدر بعد حدوث متغيرات كثيرة نتجت عن اتفاقية نيفاشا بانفصال الجنوب، فهنالك تغيير جغرافي وديمغرافي، وما حدث أيضاً أدى إلى نقصان عدد الدول المجاورة للسودان مباشرة، هذا من الجانب العام، أما الجانب الخاص فهنالك قضايا طُرحت على الساحة خلال العشرين عاماً الأخيرة منها قضية توزيع السلطة والثروة ومنها مايسمى بقضية التهميش بين المركز والولايات ثم هنالك تجربة الحكم الاتحادي وتجربة قيام الولايات وأدائها والمؤسسات المتفرعة منها وما يُثار حول علاقة الدين بالدولة، لذلك يكتسب هذا الدستور أهميته من هذه المتغيرات والتجارب التي يجب أن تُستصحب في هذا الدستور.. «مقاطعة» كيف سيتم ذلك؟ في الواقع يحسُن بالذين يقومون بأمر الدستور إن كانت لجنته أو لجانه المختلفة أن تأخذ أمرين في الاعتبار: أولهما المبادئ الدستورية المستقرة التي يتضمنها كل دستور لكل دولة حديثة، وأهمها الفصل بين السلطات والنص على حماية حقوق المواطنين بجانب الوضع في الاعتبار أن الدستور إطار عام يحكم حركة المجتمع والدولة وعلاقة المجتمع بالدولة، وهو إجازة عمل وطني مهم جداً، وأهم من هذا يجب أن يكون الدستور الذي يصدر بعد ذلك محل رضاء واتفاق بين كل القوى السياسية. التقاطعات الكثيرة في الاتفاقيات مع التكييف القانوني لها هل أثر على أداء الحكومة كفشل أبوجا والذي أدى لعدم استقرار الأوضاع في دارفور؟ كل حدث من الأحداث له ظروفه؛ فإن تحدَّثنا عن دارفور والتمرد الذي حدث فيها والعديد من الاجتماعات التي تمت بين الفصائل المتمردة والسلطة بمختلف الأماكن والأزمنة ثم المحاولة المستمرة من جانب الحكومة لحل القضية سلمياً والذي كان يجب أن يؤدي إلى تسوية الموضوع إلا أن تدخل بعض العوامل الخارجية حال دون ذلك بالتدخل الدولي بشتى أوجهه مثل قرارات مجلس الأمن والكونغرس الأمريكي والأجندة الخارجية التي وراءها مصالح إستراتيجية واقتصادية وتدخل دول الجوار، وقد اتضح أن العقيد القذافي كان يلعب دوراً أساسياً في هذا، ثم تملق وتشرذم الحركات في دارفور التي بدأت كحركتين كبيرتين ثم تقسمت إلى عشرات الحركات، أيضاً هناك خطأ أساسي لم يُحسم في نيفاشا وهو أن الحركة الشعبية كانت شريكاً في الحكم والمعارضة في وقت واحد، بل هي كانت رأس الحربة في المعارضة، لذا لا يمكن في هذه الظروف أن تُحمّل الحكومة المسؤولية عما حدث! السياسات الراهنة هل لها انعكاس على الضائقة المعيشية وما تمر به البلاد من ارتفاع الأسعار؟ بالقطع، فأنا أعتقد أن الشيء المهم الآن بالنسبة لكل القوى الوطنية سواء في الحكومة أو المعارضة أن تُشخِّص الوضع الراهن تشخيصاً موضوعياً علمياً للخروج من هذه الفترة الحرجة، وفي اعتقادي يحول دون ذلك عدة عوامل أولها العلاقة بين السلطة الحاكمة والقوى السياسية المتمثلة في التجمع الوطني وغيره من التجمعات التي أنشأت فقدان الثقة وبنت التوجس ضد تحرك كل فئة مما يأخذه الطرف الآخر على غير ما قُصد منه، ثم بعد ذلك تأتي القوى التي كان عليها أن تلعب دوراً إيجابياً وأن لا تجنح إلى الإثارة وما يدور داخل الأحزاب القائمة من تباين واختلاف، وهي قطعاً محنة وطنية بالدرجة الأولى وليست خلافات يمكن أن نحصرها في حسابات وخلافات حزبية لأن الموضوع الهام الآن هو مستقبل هذا البلد واستقراره. «مقاطعة» هل يمكن أن تُعتبر مسألة قانونية يمكن معالجتها سياسياً؟ لا أعتقد ذلك، فلو كانت قانونية لأمكن علاجها بل هي سياسية وذات جذور ضاربة في القدم في الفكر السياسي وممارساتنا السياسية، وأنا شخصياً أعتقد أنه ليس هنالك خلاف جوهري بين هذه القوى فيما يتعلق بالعمل على استقرار السودان وتنميته وإعداده لينهض بدور مهم في استقرار القارة الإفريقية لاحتلاله موقعاً إستراتيجياً فيها، وليس هنالك خلاف فيما يتعلق بعلاقة الدين بالدولة، والمؤتمر الوطني له رؤاه التي يعبِّر عنها بالمشروع الحضاري، وحزب الأمة القومي له نهج الصحوة والاتحادي له رؤيته في الجمهورية الإسلامية، فكل هذه القوى السياسية جذورها دينية سواء كانوا أنصارًا أو ختمية أو «إخوان مسلمين»، وكل هذه القوى في داخلها مثقفون ومفكرون وأشخاص مارسوا السياسة لعشرات السنين، وهو ليس خلافًا في الغايات، ولعله خلاف في المنهج والتكتيك، وهنا تتدخل المصالح الخاصة لكل طرف من أطراف هذا النزاع للأسف الشديد. قرار المحكمة الجنائية إلى أي مدى يمكن تجاهله والتعامل معه باعتباره قرارًا سياسيًا وليس قانونيًا؟ أولاً قرار الجنائية قرار سياسي لسببين أولهما أنه يناقض كل التقارير التي كان يقدمها المدعي العام لمجلس الأمن كل ستة أشهر وهو قرار يستمد أبجديته من إحالة القضية من مجلس الأمن إلى المحكمة الجنائية، وليس لأن السودان عضو في المحكمة الجنائية وليس لها اختصاص عليه، ومجلس الأمن الذي أثار موضوع المحكمة الجنائية يعلم أن أهم أعضائه غير موقعين على المحكمة الجنائية ولا يعترفون بها كأمريكا، روسيا، الصين، الهند وأن العدالة الجنائية منقوصة لأنها تجرى على الدول الضعيفة ولا تسري على الدول القوية، فارتكبت أمريكا جرائم ضد الإنسانية وهذا ليس حديثي إنما هو ما حوته كثيرٌ من الكتب التي صدرت عن علماء ومفكرين وباحثين ولكن من يجرؤ أن يطلب من مجلس الأمن إحالة أمريكا للمحكمة الجنائية؟ وأعتقد أن المدعي العام للمحكمة الجنائية أحال الموضوع لأمر شخصي وظل لأكثر من عامين ينتقل من بلد لآخر يُبشر بما اتخذ من قرارات، ولكن الصورة بدأت تتضح للرأي العالمي الآن وليس هناك من يعلق عليها وأعتقد أن العدالة الجنائية لم تحرز ما كانت تتوقعه من نجاح وبدأت بمحاكم أنشأها مجلس الأمن قبل إنشاء المحكمة الجنائية لرواندا وأثبتت فشلها ولأكثر من سبع سنوات لم يحاكم سوى بضعة أشخاص وكانت تكلفتها مليار دولار، ولجأت رواندا الآن إلى طريقتها التقليدية لحل مشكلاتها عن طريق ما يسمى بالقشا قشا والذي أعاد الاستقرار، وأنا لا أعلق أهمية كبيرة على القرار الآن وأعتقد أنه سيموت موتاً طبيعياً. أبيي مازالت قضيتها متفجرة.. ماهي الثغرات القانونية في حكم لاهاي التي أدت إلى الوضع الحالي فيها؟ أعتقد أن قبول إحالة موضوع أبيي للتحكيم الدولي كما اُتُّفق عليه في البروتوكول خطوة غير صحيحة؛ فالمحكمون الذين اُحيل إليهم الموضوع وعلى ما أذكر أن أحدهم كان سفيراً أمريكياً سابقًا معروفًا بعدائه الشديد للسودان مما جعلهم يثيرون الحدود التي تحكم العلاقة بين الشمال والجنوب والمعروفة بحدود 56م والتي تضم أبيي والدمازين وغيرها كجزء من التسوية العامة في شكل بروتوكول.. ولكن دعينا نتحدث عن الواقع؛ فأبرز قادة الحركة الشعبية من أبيي وجنوب كردفان والنيل الأزرق ونافذون سياسياً، وحتى الآن في الجنوب هم كذلك، وكان يجب أن يؤخذ ذلك في الاعتبار وأن تتم التسوية بين هذه الجهات منفصلة عن التسوية بين قضية الجنوب وقضية هذه المناطق، ولكن لا ندري الظروف التي تمت فيها هذه الاتفاقات، ولعله كانت هنالك ضغوط دولية كثيرة، ولكن الواقع أن الاتفاقية تمت وأُجيزت وكلما حوته كان محل تشاور بين المتفاوضين والسلطة السياسية في السودان. على صعيد أزمة دارفور ماذا عن تقرير لجنة تقصي الحقائق عن جرائم.. دارفور ماذا كانت مخرجاتها؟ كانت مخرجاتها أنه ليس هنالك جرائم ضد الإنسانية، وهذه النتيجة وصلت إليها اللجنة الدولية، وقد كان هناك اتهام موجه ضد بعض الشخصيات السودانية بجرائم ضد الإنسانية يخالف ما وصلت إليه اللجنتان خاصة اللجنة التي رأستُها والتي زارتْ دارفور وأكثر من ثلاثين منطقة وعقدت أكثر من 65 اجتماعًا واعدتْ تقريراً مفصلاً، الشيء الثاني أن التقرير نص على أن هنالك انتهاكات لحقوق الإنسان وقعت بكثير من مناطق دارفور من شتى الأطراف ولكن الشيء المهم الذي يتناساه الناس أن الهجوم الذي قامت به الحركات المتمردة على الفاشر والاستيلاء على بعض المدن وخصوصاً الاستيلاء على كل نقاط الشرطة أكثر من 50 نقطة خلق مناخاً انعدم فيه النظام والقانون وبدأت صراعات بين القبائل لتسوية قضايا موجودة بينها وازداد عدد النازحين والشيء العجيب أنهم يأتون إلى عواصم المديرية للاحتماء بالحكومة ولتوفير مستلزماتهم وصاروا الآن مثلنا إلا أنه قد بدأ استقطاب بعضهم للمعسكرات بواسطة الحركات المتمردة ومنعهم من الرجوع إلى مناطقهم مما أدى إلى توقف الزراعة لسنين وإضعاف النسيج الاجتماعي.. «مقاطعة» هل خرج بتوصيات جذرية وقرارت إدانة للمتهمين؟ نعم صدرت عدة توصيات أهمها إصدار قرارات قضائية فيما نُسب من اتهامات لكل الناس سواء من الحركات المتمردة أو السلطات الإدارية أو الحكومة، وحسب علمي أن التحقيق قد تم وحُدِّد عدد من المتهمين ثم إجراء المحاكمات وصدرت أحكام صارمة ثم أُقيمت لجنة للتعويضات وتم النظر في عشرات الآلاف من الطلبات في ذلك الوقت وأعدت تقريرها، ثم لجنة أخرى أعدت تقريرها لتحديد المسارات التي غالباً ماتكون سبباً للمشكلات بين القبائل الرعوية والقبائل الزراعية، إلا أن موضوع دارفور اُستغل استغلالاً سياسياً بشعاً في الولاياتالمتحدة فأُقيمت أكثر من 70 منظمة تدافع عن دارفور وبدأت القضية في متحف ذكرى المحرقة اليهودية تتولى كبرها وكان المدير التنفيذي لهيومن رايتس ووتش قد أعد شعاراً بعنوان «دارفور تحترق» وسُلِّطت عليها كل الأضواء من قِبل الإعلام العالمي، وأعتقد أن بعض المنظمات التطوعية لعبت دوراً كبيراً في تشويه الحقائق ورسخت في أذهان الناس أن هنالك 500 ألف قتيل ومليونا نازح وهذا كذب، وقد كذبناه في التقرير، وقُصد من هذا المخطط الدولي ألّا ينعم السودان بالاستقرار، واشتد هذا الأمر بعد أن تمت اتفاقية نيفاشا وبدأ الاستقرار وأعتقد أن بعض المفاوضات المتعددة والاتصالات وماتم الاتفاق عليه في الدوحة الآن قد يشكل أساساً طيباً للاستقرار في دارفور. إذن هل تعتقد أن وثيقة الدوحة وهي في طور الإنفاذ وعلى الرغم من عدم احتوائها للحركات غير الموقعة عليها قد تنجح؟ نعم؛ فرغم رفض الحركات المسلحة لها إلا أن الباب مازال مفتوحاً لها حتى الآن، ولكن المشاركين في وثيقة الدوحة هم أكثر تمثيلاً لأهل دارفور من أي جهة أخرى لاحتوائهم لمنظمات المجتمع المدني والقوى السياسية وبعض من كان يحمل السلاح، وأعتقد بما يحدث في إفريقيا وأهمها الوضع في ليبيا وما يجري الآن في تقديري من إعادة ترتيب أوراق القارة والتباين بين الموقف الفرنسي والأمريكي فهي عوامل مشجعة لمحاولة تنفيذ اتفاقية الدوحة، ولا أنكر أن هنالك اخطاء من كل الأطراف وسوء تقدير لكن هذا أمرًا معروفًا في السياسة الدولية. هل من الممكن أن تواجهها بعض العقبات؟ بالقطع ستكون هناك معوقات، ولكن بالتعاون بين الأطراف وإدراكهم لما يترتب على عدم تنفيذها من مشكلات فإنه سيكون مدعاة للتغلب على هذه المعوقات. ماهو التكييف القانوني لوضع الحركة الشعبية قطاع الشمال بعد حملها للسلاح؟ لكل سوداني الحق في أن يعبِّر عن نفسه ويكون حزبًا سياسيًا أو أن يكون عضواً في حزب والقوانين السارية تطبق على الحركة؛ فإذا كانت تمثل حزباً خارجياً أو تلجأ للسلاح فهذا يحول دون تشغيلها، والقانون لا يعطي الحق لأي شخص في حمل السلاح، وفي تقديري أن الحركة الشعبية تطوُّر لكل الحركات التي حدثت في الجنوب، فكل تلك الحركات أولاً كانت تطالب بحكم ذاتي ثم تطور إلى مطالبة بحكم فيدرالي وفي تقديري أنه كان خطأ في تجربتنا السياسية منذ الاستقلال، ثم ظهر التيار الانفصالي، فبدأت الحركة بالدعوة إلى تحرير كل السودان وإنشاء سودان جديد بمفاهيم جديدة، لكن عندما بدأ الراحل جون قرنق التفاوض تحدث باسم الجنوبيين عن ما يخص الجنوب ولم يُشرك قوى المعارضة التي كان ينتمي إليها، وكل مراقب حصيف كان يرى أن التوجه انفصالي وإن كنت أعتقد أن هذا توجه النخبة الجنوبية وليس جماهير الجنوب، وليت الأمر انتهى عند الانفصال؛ فالذين كانوا يحاربون باسم السودان الحديث يعتقدون الآن أن الانفصال كان خيبة أمل كبيرة ومازالوا يتمسكون بالسودان الحديث ويربطون هذا بإسقاط النظام وأعتقد أن هذا عمل سياسي مضطرب تترتب عليه تضحيات جسيمة كما حدث في ج. كردفان والنيل الأزرق. بالحديث عن النيل الأزرق وج. كردفان وتطور الأوضاع فيهما.. ماهي قراءتك القانونية لهذه الأوضاع؟ لست ملماً بالتفاصيل ولكن أعتقد أن الانتخابات التي تمت كانت صحيحة ومعترف بها وكان يجب القبول بما تمخضت عنه خاصة وأنه كان هنالك استعداد من جانب الحكومة لإشراك القوى الأخرى التي لم تُوفق في الانتخابات ولكني أميل إلى أن كل هذا جزء من الفوضى الخلاقة التي دعت إليها كونداليزا رايس. ولكن البعض يخشى من تطور هذا العداء إلى حرب شاملة مع الجنوب باعتباره داعماً لها؟ ما يجري في ج. كردفان والنيل الأزرق أمر مخطط له وارتباط الحركة الشعبية به يتضح جلياً؛ بل إن قادة هذه الحركات أعضاء في الأجهزة القيادية والمقصود منها إشعال حروب أهلية في السودان، والترياق الوحيد لهذا توافق وطني ووحدة وطنية تقوم على إدراك جيد لخطورة المرحلة والكف عن تضييع الوقت في أشياء أخرى لا فائدة منها.