في عام 1977م بعد عودتي من كندا عن طريق لندن مكثت عدة أيام بمدينة لندن، وقد دعاني صديقي مولانا حسن النور القاضي وزميلي بكلية الحقوق بجامعة القاهرة لزيارة متحف مدام توسو الذي أسمع عنه لأول مرة، وذهبنا سوياً في طريق ماري لوبون بالقرب من شارع بيكر حيث يقع متحف الشمع الذي يعد من أشهر متاحف العالم التي تضم تماثيل من الشمع بطريقة فنية عالية، ويعرف هذا المتحف باسم مدام توسو، وهي الشابة الفرنسية التي أنشأته بعدما عاشت أحداث وأهوال الثورة الفرنسية غادرت إلى لندن لتعيش بقية حياتها، ويسطع اسمها حتى يومنا هذا رغم اندثار الثورة الفرنسية، ولم ينل منهم شهرة مثل ما نالته مدام توسو حتى وفاتها عام 1850م بعد عمر ناهز «89» عاماً. ولدت ماري في مدينة سويسرا وأسمها الأصلي آن ماري جروشولتز، ومنذ بداية حياتها بدأت في العمل مع عمها الدكتور فيليب كبرثيوس، واكتسبت منه هذه المهنة في استخدام شمع عسل النحل لعمل تماثيل، وكادت الحياة أن تشع منها بهذه اللونية الجديدة لم يسبق لها مثيل، ثم قامت بتعليم ابنائها وأحفادها هذه المهنة، ويحتوي هذا المتحف على تماثيل المشاهير في العالم التي لعبت دوراً في دفة الحياة العالمية، وقد شهدت تماثيل تجسد الوجه الحقيقي لرجال تلك الفترة، إلى جانب تماثيل لملكات وملوك العصور الماضية والمعاصرة، ويوجد رأس كل من دانتون وربسيير الذين راحا ضحية المقصلة في الثورة الفرنسية، إلى جانب تمثال نابليون والابتسامة على شفتيه إلى جانب الكابتن نلسون أعظم رجال البحر الذين أنجبتهم إنجلترا والذي لقي مصرعه في معركة الطرف الأغر. وبدأت آن ماري جروشلتز أول صناعة لتماثيل الشمع وعمرها «17» سنة، وكان اول عمل قامت به تمثال للكاتب الفرنسي الشهير فولتير Voltair مازال موجوداً بالمتحف حتى الآن، وبعد هذا العمل ذاعت شهرة ماري وأصبحت مقربة لملك فرنسا لويس السادس عشر الذي أعجب بما تقوم به، وكذلك أعجبت بها عروسة الملك ماري انطوانيت، وتسببت هذه العلاقة فيما بعد في كثير من المعاناة لماري التي كانت تعيش في باريس عام 1789م عندما اقتحم الثوار سجن الباستيل المرعب وأطلقوا سراح من بداخله، وعندما هاجم الثوار قصر التوليري Tolleirs كان من بين من قتلوا خمسة من أقربائها ثلاثة أخوة وعمان، وبالرغم من أن تعاطفها مع الأسرة الحاكمة جعل موقفها محفوفاً بالمخاطر وحياتها في خطر، لم تفكر في الهروب، وعندما بدأ عصر الانتقام والإرهاب ضد الحكام ومعاونيهم وبدأت المقصلة تذهب بأرواح العشرات في اليوم الواحد، وفي تلك الأيام العصيبة، قامت بصنع تمثالين للملك لويس وزوجته ماري أنطوانيت وترتجف أصابعها من خشية الثوار، وهذان التمثالان جزء من المعرض الحالي بلندن وهما يمثلان الوجه الحقيقي للملك وزوجته، ويرجع الفضل في إنقاذ ماري من المقصلة إلى مهارتها الفنية التي استغلها الثوار، وقد تم القبض عليها ووضعت في سجن لافورس Laforce المخيف، واجتز شعرها وعوملت معاملة سيئة، وظلت المقصلة ترفرف فوق رأسها، وقد أجبرها الثوار على صنع تماثيل شمعية لرؤوس أطاح بها الثوار إلى جانب رؤوس بعض أقاربها لوضعها للجمهور رمزاً لانتصار الثورة، وبعد تعاونها مع الثوار واستجابتها لمطالبهم تم الإفراج عنها وأطلق سراحها، ولكنها عاشت في جو يسوده الغموض والخوف، ففوجئت بقتل عمها وأنها مسؤولة عن تسديد ديونه، لذلك شرعت من جديد في إنشاء متحف الشمع الجديد الخاص به، وقضت معظم وقتها للعمل من أجل تسديد الديون، وأخذت الحياة تعود بها رويداً على طبيعتها، وانتهى عهد الإرهاب والمقصلة. وفي عام 1795م تزوجت من المهندس فرانسو توسو وأنجبت له ولدين هما جوزيف وفرانسيس، لكن حياتها الزوجية لم تستمر طويلاً ففي عام 1852م انفصل الزوجان بعد أن حملت اسم زوجها، وأصبحت تعرف باسم مدام توسو، وهو الاسم الذي اشتهرت به حتى الآن، وفكرت في الهجرة إلى لندن بعيداً عن الحياة الفرنسية القاسية بعد طلاقها، وفي نفس العام نقلت تماثيلها إلى مدينة لندن وأدنبرة، ولكنها تعرضت لمأساة عام 1804م وهي في طريقها بحراً إلى ايرلندا، حيث تحطمت السفينة التي كانت تقلها وغرقت جميع تماثيلها ولم يبق لها شيء، ولكنها عادت بعد ثلاثة شهور وتمكنت من افتتاح معرضها، ولكنها تعرضت ثانية لأزمة بعد أن صادرت الحكومة الفرنسية تماثيل الشمع التي تركتها مع زوجها السابق في باريس، وذلك لتسديد الديون التي عليه، وفي عام 1811م ابتسم الحظ لماري وعادت إلى إنجلترا وبدأت تنتقل بمعرضها من بلدة إلى بلدة أخرى، وكسبت ذوق الجماهير إلى أن أستقر بها المقام الأخير في لندن في شارع بيكر حتى يومنا هذا، ودام بها الاستقرار إلى أن تقاعدت في عام 1842م وهي في سنة الخامسة والثمانين، بعد أن صنعت آخر تمثال لها وهو تمثال شخصها الذي مازال محفوظاً في المتحف. وفي عام 1850م توفيت مدام توسو وشيعها أهالي لندن في موكب رهيب إلى مقرها الأخير في كنيسة سانت ماري، بميدان كاروجان في حي شلسي، وتسلم زمام الأمور أبناؤها جوزيف وفرانسيس، وقاما بالإشراف على المتحف الذي تم نقله في عام 1884م إلى مكانه الحالي بطريق ماري لوبون، ثم توارث بعدها أبناؤها العمل وصار كل شيء عادياً حتى يوم 18 مارس عام 1925م حيث شب حريق حول المتحف كاد يحوله إلى لهيب سائل، وقد استغرقت إعادة بناء المتحف ثلاث سنوات، وظل مغلقاً بالرغم من إنقاذ معظم التماثيل قبل أن تصهره حرارة اللهب، وعاد مرة أخرى للأضواء من جديد، ولكن كانت الأقدار له بالمرصاد، ففي عام 1940 أصابته قنبلة أثناء الحرب العالمية، ولكن بعد ثلاثة شهور تم إصلاحه وفتح أبوابه للجمهور من جديد، ويضم المتحف اليوم أكثر من «600» تمثال يحتل بعضها مكانة دائمة في المتحف وبعضها الآخر يمثل شخصيات كانت شهرتها وقتية وحلت محله تماثيل لشخصيات أكثر أهمية، والجدير بالذكر أن جميع التماثيل تصنع بالحجم الطبيعي ويستخدم الشعر الطبيعي في الرأس، وهو عمل يقوم به خبراء متخصصون إلى جانب متخصصين في صنع الملابس التي تكسو التماثيل، ومازال المتحف من أبرز معالم لندن، حيث يرتاده الزوار من كل أنحاء العالم، ويزوره في العام أكثر من مليوني سائح، والتماثيل التي بالمتحف تحمل صوراً حقيقية لبعض الأسماء والمشاهير العالميين الذين نسمع عنهم في العهود الماضية الذين عاصرتهم مدام توسو، وعملت لهم تماثيل بنفس أشكالهم الطبيعية، وقد وضعت مدام توسو سياسة لهذا المتحف بألا يظل للمشاهير فقط، بل يظل متعة للزائرين. ومنذ زيارتي له لأول مرة عام 1977م ظلت كلما تسمح لي الظروف بزيارة لندن، أزوره وأشاهد آخر التماثيل، وقد أعجبني تمثال الرئيس جمال عبد الناصر، وعندما تشاهده ببدلته تظن أنك واقف بجواره وهو حي، وتشعر بنوع من الفخر والاعتزاز.