جاء في الأخبار بصحف أمس الجمعة أن حوالى «40» حزباً سياسياً اتفق ممثلوها مع حزب المؤتمر الوطني الحاكم، بشأن وضع آليات لتنفيذ مبادرة الإصلاح الوطني التي أطلقها الرئيس البشير للحوار حول القضايا الوطنية، وتضمن الاتفاق تحديد سقف زمني للحوار ينتهي بمؤتمر جامع لكل القوى السياسية، ومن الآليات التي اُقترحت: أولاً: تشكيل لجنة عليا من جميع الأحزاب لقيادة الآلية، ثانياً: اختيار إحدى الجامعات لتنفيذ المبادرة، ثالثاً: تكوين آلية قومية وطنية من شخصيات معروفة بحياديتها ووطنيتها. وقبل الخوض في الآليات الثلاث المقترحة لوضع المبادرة موضع التنفيذ وصولا إلى مؤتمر الحوار الجامع الذي من المنتظر أن تشارك فيه كل القوى السياسية الموالية للحزب الحاكم والمعارضة له والتي تتخذ بين ذلك سبيلاً، قبل الخوض في ذلك لا بد من الإشارة بوضوح إلى أن مبادرة الرئيس البشير للإصلاح قد أربكت المسرح السياسي بشكل واضح بينما مازال الغموض يكتنف المشهد، في وقت باتت فيه الساحة السياسية تمور بكثير من الشكوك نظراً لاتساع هوة عدم الثقة بين مكونات الساحة السياسية السودانية.. فأما كون أن المبادرة أربكت المسرح السياسي، فذلك من خلال التصدعات والخلافات الظاهرة والمستترة داخل كل حزب سياسي إزاء هذه الخطوة بما في ذلك المؤتمر الوطني نفسه، ففي داخل «الوطني» هناك من ينظر إلى هذه التطورات على أنها «طامة» تستهدف مزيداً من الإقصاء لقيادات الحرس القديم الذين شجع إبعادهم بعض القوى التقليدية الفاعلة مثل حزبي الترابي والمهدي وبعض الشخصيات اليسارية التي باتت تقترب هذه الأيام من الحزب الحاكم من خلال استخدام لغة تصالحية لم تكن معهودة من قبل.. وفي حزب الأمة تصاعد الخلاف بشكل بدا أكثر وضوحاً حيال التعاطي مع مبادرة الإصلاح والحوار مع المؤتمر الوطني بشكل أدى إلى إبعاد القيادات الرافضة للحوار مع الوطني في غياب ضمانات التنفيذ، كما سنبيّن ذلك من خلال بعض الشواهد ونتائج ذلك الخلاف... في المؤتمر الشعبي أيضاً لم يكن الخلاف الظاهر والخفي بحاجة إلى إثبات إذ مازال الأمين السياسي للحزب وقيادات أخرى يعبرون عن تلك التباينات بشكل أكثر وضوحاًَ. استقطاب أم حل؟ ومن أبرز معالم الإرباك داخل الساحة السياسية هو ذلك الشعور المتنامي بالقلق والخوف لدى الكثيرين، وذلك بسبب الغموض الذي اكتنف مبادرة الإصلاح وخطاب الرئيس البشير الذي كان من المفترض أن يكون موضحاً لخطوات الإصلاح والتغيير، وما زاد الأمر شكوكاً ركون شخصيات سياسية مهمة مثل الترابي والمهدي لهذا الغموض وهو أمر يعني التفسير على طريقتين: الأولى: إن الغموض مقصود لذاته حتى لا تنزعج جهات داخل الوطني ظلت معارضة من أي نوع من الانفتاح وتعمل على إجهاض هذه الخطوة الانفتاحية، ربما لأنها لن تتحمل «مشرط» الإصلاح. الثانية: ركون الترابي والمهدي لهذا الغموض يعزز الشكوك بأن ما يحدث الآن هو صفقة سياسية لاستقطاب حزبي الأمة القومي والشعبي، وحتى يُرفع الحرج عن الحزبين تأتي مشاركتهما من خلال آليات، ولجان عليا، ومؤتمر جامع وأجندة وطنية وهلمجرا.. وإلا من أين للترابي والمهدي كل هذا الصبر على «الغموض» ومباركته والتعاطي معه ب «ثقة» مفرطة وإيجابية لم تكن متوقعة، بل تفاجأت بها قيادات «الوطني» للدرجة التي دفعت البعض منهم إلى تبرير خلو خطاب الرئيس من المفاجأة بأن المفاجأة كانت حضور الترابي والصادق المهدي بقاعة الصداقة!! سيناريوهات محتملة وطبقاًَ لما يجري في الساحة السياسية من حراك وسباق ماراثوني نحو المصالحة الوطنية والتسوية السياسية فإن السيناريوهات المحتمل حدوثها كثيرة، ولكن هناك اثنين منها مرجحة بنسب أكبر وذلك على النحو التالي: السيناريوالأول: إما أن يكون هناك حل حقيقي يلبي رغبات وتطلعات الشعب السوداني في وقف الحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور، ويُلجم الفساد ويضع حداً للمضاربات الدولارية وفوضى الأسعار وتخفيف الضائقة المعيشية، ووضع برامج وحلول للإصلاح الإقتصادي وإزالة التشوهات. السيناريو الثاني: أو أن يكون ما يجري يستهدف بالدرجة الأولى استقطاب قوى سياسية جديدة للمشاركة في السلطة وتوسيع قاعدة الحكم باستيعاب بعض الحركات المسلحة، وهذه القوى بالطبع هي حزبا الترابي والمهدي وبعض الحركات المسلحة بدارفور وقطاع الشمال. السيناريو الأقرب هناك كثير من المؤشرات والملاحظات إذا أمعنا النظر إليها في إطار التفسير المنطقي لما يحدث الآن سراً وعلناً يمكن أن تكون واحدة من المعطيات التي تُرجح حدوث سيناريو أكثر من الآخر، ومن هذه المؤشرات مثلا حق الحرية، وهو أمر لا يمنح لحزب سياسي معارض دون الأحزاب الأخرى المعارضة، ولنكن أكثر تحديداً ونتساءل لماذا أفرجت الحكومة عن صحيفة «رأي الشعب» التابعة للمؤتمر الشعبي بينما مازالت هناك صحف مملوكة لأفراد وأحزاب محاطة بسياج الحظر مثل صحيفتي «التيار» لصاحبها الكاتب الصحافي عثمان ميرغني و «الميدان» الناطقة باسم الحزب الشيوعي السوداني، وطالما أن فك حظر «رأي الشعب» عربون لإبداء حسن النية للحوار فليكن الإفراج عن «الميدان» كذلك، خاصة أن الحوار المقبل لم يكن ثنائياً بل «جامعاً»، وهذه النقطة كان قد أشار إليها الحزب الشيوعي، وقال أحد قياداته إن هذا الإجراء يقصد استثناء صحيفة حزبه من الإفراج هو محاباة في الحلول لصالح قوى معينة.. وربما هذه إشارة فقط تعزز المخاوف الموجودة أصلاً والتي تشير إلى أن ما يجري ربما يكون صفقة سياسية لاستيعاب حزبي الترابي والمهدي، على أن يحدث ذلك تحت غطاء سياسي أشمل لمنع القيل والقال. والأمر الثاني الذي يعزز هذا السيناريو أيضا هو، قراءة الموقف داخل حزب الأمة القومي الذي بدا الآن يزحف بخطى متسارعة نحو التقارب مع المؤتمر الوطني، ولو أننا رجعنا قليلاً إلى الوراء سنجد أن موقف حزب الأمة من المشاركة في الحكومة يشير إلى أنه لن يشارك إلا في إطار سياسي عام، وهذه شروط كانت حتى وقت قريب يتحدث عنها الصادق المهدي نفسه، ولعل الإطار السياسي «الغطاء» قد تم التوصل إليه الآن وهو الآليات التي سبقت الإشارة إليها، كما نلاحظ أن المهدي ظل يطالب وبشكل مستمر بما يسميه «المؤتمر الدستوري» ومرات يطلق عليه «اللقاء الجامع»، وفي أحيان كثيرة «المؤتمر الجامع» بوصفه شرطاً للمشاركة في الحكم وحل القضايا المختلف حولها. موقف اليسار بعض القوى السياسية ذات التوجهات اليسارية مازالت تتبنى الدعوة إلى تشكيل حكومة قومية انتقالية تعمل على برنامج بديل ديمقراطي متفق عليه من قبل جميع القوى السياسية بالبلاد، وتشدد على أن البديل يجب أن يحقق دولة المواطنة وقومية أجهزة الدولة كلها، غير أن هذا المطلب لم يعد يشغل حزبي الأمة والشعبي، رغم أن الأخير كان يضعه في سلم الأولويات، والآن وبقراءة موضوعية يمكن القول أن الأحداث المتسارعة لا تمضي باتجاه تكوين حكومة انتقالية تكون مهمتها الأساسية الإشراف على الانتخابات كما يتردد، ولكن ربما تكون هناك حكومة جديدة تستوعب بعض القوى السياسية التقليدية وبعض الحركات المسلحة أو اتفاق على توسيع قاعدة الحريات بضمانات دستورية إلى حين إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. مخاوف مبررة ثمة مخاوف أخرى برزت في المسرح السياسي بعد لقاء المؤتمر الوطني بالقوى السياسية المشاركة وغيرها من الأحزاب «الموالية» للحكومة والتي يُنظر إليها على أنها «كومبارس» للحكومة تستخدمها من أجل الحشد السياسي وتمرير الأجندة بالأغلبية، وهي أحزاب متوافقة مع الحزب الحاكم سواء أكانت مشاركة في مستويات الحكم أو غير مشاركة، وتنبع المخاوف من أن يقوم «الوطني» بحشد هذه القوى بشكل يمثل أغلبية ميكانيكية في لجان الدستور وآلية الحوار، على نحو تكون فيه الغلبة للمؤتمر الوطني وبشكل يسمح بتمرير رؤيته الأحادية، وطبقاً لذلك سيظل المؤتمر الوطني متمسكاً بهذه الأحزاب رغم ضعفها السياسي وقلة ثقلها الجماهيري ربما للقيام بهذا الدور.