إن الوطن العزيز تحيط به تحديات أمنية واقتصادية وتحرشات أجنبية وضغوط خارجية تأخذ في كل مرحلة شكلاً جديداً ولذلك فإن الوفاق واجب وطني لا محيد ولا مناص عنه وهذا شيء متفق عليه من حيث المبدأ بين كل القوى المتقاربة فكرياً لا سيما التي كانت منضوية في الماضي تحت لواء ومظلة الجبهة الوطنية ولكن تعتري السبيل نحو الوفاق بعض العقبات لأن كل طرف ينظر لهذه القضية من الزاوية التي تروق له. وفي الأيام الماضية أعاد السيد رئيس حزب الأمة النظر في تكوين المكتب الرئاسي لحزبه ليكون متماشياً مع خط التفاوض والتفاهم مع حزب المؤتمر الوطني. وعقد رئيسا الحزبين اجتماعاً مشتركاً في مساء يوم الأربعاء الماضي ضم عدداً مقدراً من الطرفين وشارك في الاجتماع من جانب الحزب الحاكم عدد من كبار المسؤولين النافذين السابقين وحملت الصحف في اليوم التالي أن الطرفين اتفقا على وضع مصفوفة للتفاوض للوقوف على النتائج في وقت محدد معلوم ومثل هذا الاجتماع المشار إليه ليس فيه سر لأن عدد المشتركين فيه كبير، ولعل الحديث دار في عموميات بطريقة عفوية دون سابق إعداد للوقوف على التفاصيل ودون عقد لقاء مشترك بين من حضروا من الجانب الحكومي قبل لقاء الطرف الآخر، ولعل الذين نسقوا للقاء ووجهوا الدعوات للمشتركين في الجانب الحكومي أرادوا إرسال رسالة للآخرين مفادها أن المسؤولين الحاليين والسابقين يستظلون جميعاً تحت مظلة حزب المؤتمر الوطني دون أن تفرق بينهم المواقع داخل السلطة أو خارجها ويمكن أن نصف اجتماع ليلة الأربعاء بأنه اجتماع لإبداء حسن النوايا وهو بداية لمشوار جديد نأمل أن يتجنب الجميع فيه العثرات السابقة ويستفيدوا من تجارب الماضي ويستخلصوا منها الدروس والعبر وقد التقوا في الماضي في جنيف وتفاوضوا في جيبوتي وعقدوا بعد ذلك جولات ومفاوضات كثيرة في الداخل والتقى رئيسا الحزبين مرات عديدة ولكن الأوضاع لم تراوح مكانها رغم تبادل الابتسامات والكلمات الطيبة والتصريحات الصحفية والإعلامية المبشرة بالخير بعد إنتهاء كل لقاء، ولكن ظل الوضع بين الطرفين كصخرة سيزيف ترتفع ثم تتدحرج للسفح مرة أخرى وترتفع ثم تتدحرج مرة أخرى وهكذا دواليك، وخلاصة القول إن الاجتماع الأخير لم يخرج بتفاصيل محددة ودعونا نأمل خيراً هذه المرة. وأن المفاوضات الثنائية التي يجريها الحزب الحاكم لن تكون قاصرة على حزب الأمة وحده بل سيجري مفاوضات مماثلة مع الحزب الاتحادي الديمقراطي وحزب المؤتمر الشعبي وغيرهما. وفي أديس أبابا تجري مباحثات بين وفد الحكومة ووفد قطاع الشمال حول المنطقتين بل أن الحزب الحاكم أعلن أن مفاوضاته ستمتد لكل الحركات المسلحة وللحزب الشيوعي.. و... ألخ، ولا ندري في نهاية المطاف هل سيكتفي الحزب الحاكم بهذه المفاوضات الثنائية مع كل حزب على حدة أم أنه سيسعى بالاتفاق معها على عقد مؤتمر شامل قد يشترك فيه جزء منهم ويرفض الاشتراك فيه آخرون وأن كل الأحزاب المشار إليها ورغم التباينات الفكرية والخلافات بين بعضها إلا أنها مجمعة على شيء واحد هو ضرورة تكوين حكومة قومية انتقالية يتبعها إجراء انتخابات عامة، ولكن كل المؤشرات تؤكد أن الحزب الحاكم يرفض هذا المقترح رفضاً تاماً ولا يوليه ذرة من اهتمامه والحسابات الواقعية تشير لأن الحزب الحاكم يمسك الآن بكل مفاصل السلطة وأجهزتها في كل المستويات الاتحادية والولائية والمحلية ويملك المال وتماهت حاءاته الثلاثة «حكومة، حزب، حركة» وأن الأطراف الأخرى قد فارق بعضها السلطة قبل ما يقارب ربع قرن وما زال يعتقد أنه صاحب الشرعية التي سلبت منه والمعروف أن أجل الجمعية التأسيسية المحلولة كان سينتهي في عام 2001م أي قبل ثلاثة وعشرين عاماً وتلك شرعية قد سقطت بتقادم العهد وسيطرة واقع جديد هيمن على الأوضاع لمدة تقارب ربع القرن وحدثت متغيرات كثيرة إذ أن نظام الحكم كان برلمانياً ويقبل اقتسام السلطة بحيث يتولى أحد الأحزاب رئاسة الدولة ويتولى الحزب الآخر رئاسة الوزراء ويمكن إشراك الآخرين وفق محاصصة متفق عليها، أما الآن فان النظام رئاسي يعتلي سدته واحد فقط لا يقبل القسمة على اثنين ولكن يمكن إشراك الآخرين في بقية الأجهزة التشريعية والتنفيذية، ومن الواضح أن الحزب الحاكم ظل منذ أمد ليس بالقصير مهموم بالدورة القادمة وفي سبيل ذلك صفى حساباته الداخلية وأقصى ما يمكن أن يقدمه للآخرين هو منحهم أقل قليلاً من نصف المقاعد في البرلمان الاتحادي والمجالس التشريعية الولائية لتكون له الأغلبية داخلها ولو بصوت ترجيحي واحد على أن يشركها بعدد معقول من المقاعد يقسمها عليها وبذات القدر يمكن ان يقتسم معها المواقع التنفيذية ويشركها بمواقع نواب أو مساعدين للرئيس.. الخ، وعلى الآخرين ان يكونوا واقعيين ومن حقهم ان يطالبوا بإجراء انتخابات حرة نزيهة يشترطوا فيها ان يمنح كل الولاة والمعتمدين اجازة فور البدء في إجراءات الانتخابات وتنتهي الإجازة عند إعلان النتائج مع منح إجازة مماثلة لكل مرشح يعتلي موقعاً دستورياً. وان القواعد لا يمكن ان تتفرج وهذا شعب عظيم وحتى القرى الصغيرة النائية أضحت تضم عدداً مقدراً من الخريجين وحملة الشهادات العليا مع ارتفاع نسبة الوعي بين كل فئات المجتمع وأن هذا الوطن غني بموارده الضخمة واذا فجرت كل طاقات الشعب واستغلت كل الموارد فان هذا الوطن مؤهل ليكون مارداً اقتصادياً ورقماً إقليمياً ولكن الفتن والحروبات التي تؤجج نارها القوى الأجنبية والصراعات الداخلية حول السلطة والمواقع هي التي أقعدته كثيراً وأضحى هذا الوطن كالعير في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول والمؤسف ان الأحوال المعيشية لقطاعات واسعة اصبحت متردية وبكل أسف ان الفقر المدقع وسط فئات عريضة أدى لظهور ادواء اجتماعية وبيلة لم يشهد لها السودان مثيلاً من قبل وسط شريحة أصابها الضعف البشري ولذلك كثر عدد اللصوص المسلحين وقطاع الطرق والنشالين دعك من الفساد المصلح وآن للأغلبية الصامتة من هذا الشعب العظيم أن تأخذ بزمام المبادرة وتصر على قيام دولة مؤسسات حقيقية لا صورية وان تساهم هذا الأغلبية العظيمة وهي العمود الفقري للوطن وصاحبة الحق الأصيل فيه في تصحيح الأوضاع المعوجة لتستقيم ولا يمكن ترك مصير أمة كاملة لشريحة صغيرة فيها عدد محدود من الأحزاب والأفراد يتصارعون حول السلطة ومقاعدها العليا وأن الأمم ليست متاعاً يورث ولا عقاراً يقتنى.