الألم الذي اعتصر قلوبنا في ذلك اليوم الذي التقينا فيه لأول مرة بمديرنا العام الفريق أول هاشم عثمان الحسين كان كبيراً جداً، فقد قال سعادته في ذلك اللقاء المشهود: «أنا أعلم كما يعلم الشعب السوداني كله معاناتكم وعدم تناسب ما تأخذونه من مكافآت مع ما تبذلونه من جهد، ولكن لا أنا ولا غيري قادرون على تعديل سياسة الدولة الكلية في ما يتصل بالهياكل والأجور. وأنا الآن أعمل مع هيئة قيادتكم في محاور عدة بدءاً ببيئة عملكم وانتهاء بتحسين أوضاعكم وأوضاع أسركم.. وسأجتهد راجياً التوفيق من الله ولكن يجب أن يكون معلوماً بأنني لا أملك عصا موسى»... ثم مضى في حديث آخر لم ينل حظاً من تركيزنا، لأننا كنا في وادي الإحباط، نقول في أنفسنا نعم لا يملك الرجل عصا موسى، ولكنه يملك عصا الرئيس وحبه وتقديره، فهما حتى الأمس القريب كان يضمهما سقف واحد!!! ومضت الأيام فإذا البشريات تترى وإذا الشرطة كلها بمتقاعديها تنعم في خير وفير، ولهذا عندما سألتني مديرة الحوار بفضائية السودان الأستاذة إيناس في حوارنا المصاحب للنقل المباشر لافتتاح منشآت الشرطة التدريبية عن مرتبات الشرطة التي تمت مضاعفتها... قلت نعم! تمت مضاعفتها أضعافاً مضاعفة.. بحساب المكتسبات لا بحساب الهياكل الخاصة بالأجور، فمرتباتنا نحن في الشرطة لم تطرأ عليها أية تعديلات باستثناء تلك التي شملت كل العاملين بالدولة... ولكن الذي جعلنا نحس بأنها تضاعفت... هو تحسين بيئة عملنا مع الخدمة الصحية والتعليم المجاني والدعومات الاجتماعية العينية... والسكن المريح اللائق... وهذا رفع عن كواهلنا أعباءً مالية ضخمة إذا وقفنا على حصيلة فواتيرها الممزقة لعرفنا «الآلية» التي حسنت القيادة أوضاعنا من خلالها... وبمناسبة تحسين الأوضاع فإن السكن في هذه الأبراج الجميلة ومع رفاهيته ونقلته الحضارية يحمل في جوفه عيباً إستراتيجياً كبيراً يتعلق بمعرفة الزوجات لكل المستحقات المالية التي تأتي عرضاً، فما أن يدخل جيبك بديل نقدي أو حافز أو شيء من هذا القبيل، حتى يصلك هاتف التحذير يحمله الهواء العليل من أبراج المشير بعدم الصرف والتبذير لحين عودتك سالماً غانماً «طبعاً»، هذا إضافة لمشكلة أخرى اجتماعية، فقد ذكر أحد الزملاء أنه وبعد أن انتقل بالأسرة من سوبا الأراضي لأبراج هاشم عثمان بالسجانة، لاحظ أن ابنته «تغيرت مشيتها» وارتفع سقف مطالبها. المساعد المتقاعد عبد الله شبو الذي عمل «تعلمجياً» لما يقارب نصف قرن تم إطلاعه على المراكز التي سيتم افتتاحها وسعتها الاستيعابية، فتساءل عن الآلية التي سيتم من خلالها إجراء «فرش متاع» لكل هذه القوات المتدربة... ثم من أين سنأتي «بمشمعات فرش» لغابة البشر هذه، وعندما قلنا له إن هذه المعسكرات سينام فيها الدارسون في أسرَّة بملاءات ومراتب أسفنجية... ويُقدم لهم الطعام وهم جلوس في صالات ضخمة، ويدرسون في قاعات مدرجة ومكيفة الهواء.. ويصلَّون في مساجد أقرب في شكلها وسعتها لمسجد السيد علي.. قال «وراجين منهم نفاع». صديقي وزميلي في الشرطة والصحافة الأستاذ طارق عبد الله الذي مثل «الأهرام» في الجولة التعريفية... سأل عن عدد السنوات التي أُنجز فيها هذا العمل الضخم والتي لن تقل وفقاً لحساباته هو عن العشر... وعندما قلنا إنها نحو من عامين... قال هذا هو المستحيل بعينه!!! ولما أضفنا لعلمه أن هذه المنشآت أُقيمت بالتزامن مع مشروعات الإسكان بأبراجها العالية وشققها الخمسمائة ومجمعاتها الضخمة في العاصمة والولايات ومنازلها التي قارب عددها الأربعمائة ودار الشرطة بطوابقه ومصاعده وقاعاته وملاعبه وحدائقه وصالاته الرياضية، قال: هذا لن يفعله إنسان كُسيتْ عظامه لحماً لقد فعلته إذاً «ملائكة من السماء»!!! وخوفاً من أن يضيف للجنة العليا لمشروعات الشرطة «نفر من الجن» رأينا عدم إطلاعه على «معضلة» المعاشات والأشياء الأخرى الخاصة باستقرار الشرطي في حياته المعيشية والمهنية ورفع قدراته وتحسين شروط خدمته... والمنشآت الأخرى التي من بينها ميس الضباط والمرحلة الثانية من مشروع الإسكان والمركز الإقليمي للأدلة الجنائية. يعلم الله أنه لولا معرفتي بالرجل الذي صنع هذا الإعجاز وكرهه للشكر والمادحين... لكتبت في هذا الإعجاز ما لم يكتبه مالك في الخمر.. ويكفي ما قاله السيد الرئيس وتناقلته كل فضائيات الدنيا وما قاله السيد رئيس المجلس الوطني الدكتور الفاتح عز الدين في زيارته لأمن المجتمع بحضور المدعي العام مولانا عمر أحمد محمد «لو قامت كل مؤسساتنا بما قامت به الشرطة لكنا الآن أنموذجاً تحتذي به الدول كافة». ولهذا كله، فإن كلاً من شهد هذا الإعجاز حمد الله على أنه كان حضوراً فيه وأثنى على تقدير الدولة وتكريمها لهؤلاء الرجال وفي مقدمتهم المدير العام ونائبه السابق الفريق العادل ونائب المدير العام والمفتش العام الفريق عمر ورؤساء الهيئات الفريق منان والفريق ساتي والآخرون الذين بذلوا وأعطوا ولم يستبقوا شيئاً من خلال اللجنة العليا واللجنة التنفيذية للمشروع، وعلى رأسهم الأخ اللواء محمد عبد الرحيم. نعم كل هؤلاء يستحقون التكريم والتقدير ويستحقون أكثر من مجرد تخرجهم كدفعة أولى من هذه المراكز التدريبية المتقدمة. وتسألوني عن الدورة التي تلقوها؟ فأقول لكم: هي دورة مكثفة في الطيران العمودي... إذ لا يعقل أن يقلع هؤلاء الناس بمروحيات الشرطة أربع مرات في اليوم الواحد ثلاث إلى أربع مرات في الأسبوع على مدى خمسة عشر شهراً لا يفصلهم من طياريها سوى سنتمترات قليلة ولم يعرفوا بعد كيف تُدار، وكيف تُقلع وكيف تعلو وتهبط.. أكاد أجزم بأنهم الآن قادرون على الإقلاع بها وإنزالها دون أي عناء باستثناء الأخ العميد أحمد عثمان لأن خلفيته ك «ضابط صحة» تجعله مرتبطاً بالأرض أكثر من السماء «اللهم لك الحمدُ كما يليقُ بجلال وجهك وعظيم سلطانك».