تعج الذاكرة الإنسانية بالعديد من التجارب البشرية المجيدة التي لعبت فيها النخب والأدباء والكُتاب والفنانون والشعراء دوراً ريادياً رائداً ومضيئاً مثل النجوم الزواهر في مجرى أي أمة من الأمم أو شعب من الشعوب تجاوز بعطاء عقول وأقلام بنيه وبناته أحلك وأعقد التعقيدات وذلك بعطاء قناديل العقول التي تشكل مجموعة شمسه في السماء تنير لنا دياجير الليالي الحوالك وظلمات التيه والهرطقة والتجديف وتشكك تلك الأفكار القاعدة الفكرية والأدبية والفلسفية ومنصة الانطلاق نحو العلا وحمل الوطن عبر أجنحة قوية تحلق به عالياً وتظل تلك البدور حادية لنا بأيهما اقتدينا اهتدينا ولقد حفلت الذاكرة الإنسانية بالدور الكبير الذي قام به أهل الفكر من كُتاب وفلاسفة وأدباء وفنانين ورسامين ومسرحيين ولقد سجل لنا التاريخ وأوعيته تجربة بغداد الرائد في عهد الخليفة الشمس المأمون بن الرشيد حينما كانت بغداد حاضرة الكون في ذاك الزمان ومنبع الفلسفات والأفكار والآداب وما كان لذلك أن يكون لولا تلاقح أفكار أهل العلم والمعرفة والدراية من فلاسفة وأدباء وعلماء سير ومغازي وفقهاء وتبوأت عاصمة الرشيد ذاك الموقع الوثير والأثير بفضل إشعاع عقول مفكريها وعلمائها وتشجيع خلفائها وكذلك ما كان لنهضة أوروبا التي تفتحت براعمها في مدن ايطاليا في عصر نهضتها التي ما زالت أفكاره وآراء فلاسفتها وتماثيل فنانيها التي نحتوها في قلوب عشاق أهل الفن قبل أن تنصب في ساحات البلاد ماثلة تتحدى الزمان وتشرئب بأعناقها نحو السماء ترضع القمر مؤكدة على عبقرية الإنسان في جنوة والبندقية فانداحت منها مواكب وأمواج الضياء والمعرفة شرقاً وغرباً فالإبداع مثل مزن السماء أينما حل نفع وفوق كل هذا الفن والذوق الأدبي الرفيع جهد العلماء الخلاق الذي به اكتملت المسيرة عبر مشروع سياسي عظيم وهو توحيد مدن ايطاليا في دولة قومية واحدة قوية دون اعتبارات عرقية أو اثنية أو جهوية أو دينية وهذه العلل ما زالت تطل برأسها علينا فكان لإيطاليا عبر مدنها المتحدة ذات رسالة نهضوية حقة قامت على جهد مفكريها ومبدعيها وفلاسفتها فدخلت التاريخ بتجربة سياسية وفكرية أسس لها الأدباء والفنانون الملهمون الذين لم يصانعوا الحكام والسلطان ولم يكونوا أدوات زينة في أنظمتهم فكان لهم ما أرادوا وكذلك يحدثنا التاريخ ومن أعلى منصاته عن دور عقول علماء فرنسا من كُتاب ألمعيين ومفكرين لا حدود لطاقة عقولهم فكان لذلك الإنتاج الفكري الخصيب أن رسم على خارطة البشرية عهداً وعصراً جديداً سمي عصر الأنوار والتنوير مهد الطريق لأعظم ثورة عرفتها الإنسانية وهي ثورة فرنسا صاحبة الجمهوريات المتجددة والمتوثبة نحو أفق بعيد وما كان لشعب فرنسا أن يعبر تلك المفازة لو لا تمهيد الطريق وتعبيد طرقاته بجهد علماء وكتاب وأدباء خارق حلقوا بأجنحة لا تعرف الكلال والوهن والملق فكانت الثورة على كل شيء ومن أجل كل شيء فكراً وأدباً وثقافة وموسيقا ومسرح وكل ضروب المعرفة. إن الذي حملني على هذه المقدمة هو فكرة الحوار الوطني كأن الأمر يخص الساسة فقط فهناك قضايا فكرية وفلسفية ودينية تحتاج إلى نقاش وحوار عميق لأن السودان الآن لا نقول يقف على مفترق طرق بل يسير على طرقات محفوفة بالمكاره جزءاً منها مع صنع أيدينا وآخر وافد علينا من الجوار وأعالي البحار وتقاطعات مصالح قوى كبرى ان لم نعد العدة بما هو وابج سوف تزلزل الأرض من تحت أقدامنا وتميد من تحتنا جميعاً وسوف تكون لتلك الزلازل ارتدادات وتوابع تلحقها توابع تهز أركان البلاد هزاً عنيفاً قد تتساقط أفكار وفلسفات وتسقط حتميات كما سقطت في روسيا وتسقط عقائد وأيديولوجيات وكأني بالكثير من الأفكار والمشروعات السياسية تتهاوى كأعجاز نخل خاوية وأصحابها نراهم سكارى وما هم بسكارى ولكن بأس الأحداث شديد والسؤال هنا هل يستطيع أدباء وعلماء ومفكرين تنزيل فكرة الحوار الى أرض الواقع وخلق حوار خلاق دون شروط مسبقة أو ثوابت فلا ثابت إلا الوطن أما ما دون ذلك فكل شيء يخضع للحوار والنقاش وهذا دور علماء ومفكري هذه البلاد هل سينحازون الى أحزابهم ومعتقداتهم السياسية أم ينحازون الى افكارهم هل يملك الجميع ساسة ومفكرين الجرأة على فتح تلك الأضابير واسراج مصابيح الحوار عبر دور مشهود لأساتذة الجامعات والنخب السودانية من أصحاب الرأي ورجال دين مستنيرين من أجل إكمال مشروع الحوار الوطني عبر دور رائد ومقدر لهم فالبلاد أمام تحدٍ كبير والإنقاذ لم تستطع أن تحل كل المشكلات في الربع قرن الذي ظلت فيه تحكم وتحولات من حولنا كونية وإقليمية كبرى تحتاج الى مراجعات وتنازلات وحوارات عميقة يكون فيها للمفكرين والأدباء القدح المعلى من أجل العبور بالبلاد الى مربع جديد وأخيراً نقول ما قاله الأفوه الأودي: لاي نفع القوم فوضى لا سراه لهم ولا سراه إذا جهالهم سادوا تقضي الأمور بأهل الرأي ما وجدوا فإن تولوا فبالجهلاء والأشرار تنقادوا