مراقد الشهداء    وجمعة ود فور    ليفربول يعبر إيفرتون ويتصدر الدوري الإنجليزي بالعلامة الكاملة    كامل إدريس يدشن أعمال اللجنة الوطنية لفك حصار الفاشر    وزير رياضة الجزيرة يهنئ بفوز الأهلي مدني    مخاوف من فقدان آلاف الأطفال السودانيين في ليبيا فرض التعليم بسبب الإقامة    سيد الأتيام يحقق انتصارًا تاريخيًا على النجم الساحلي التونسي في افتتاح مشاركته بالبطولة الكونفدرالية    وزير الداخلية .. التشديد على منع إستخدام الدراجات النارية داخل ولاية الخرطوم    شاهد بالفيديو.. استعرضت في الرقص بطريقة مثيرة.. حسناء الفن السوداني تغني باللهجة المصرية وتشعل حفل غنائي داخل "كافيه" بالقاهرة والجمهور المصري يتفاعل معها بالرقص    شاهد بالصور.. المودل السودانية الحسناء هديل إسماعيل تعود لإثارة الجدل وتستعرض جمالها بإطلالة مثيرة وملفتة وساخرون: (عاوزة تورينا الشعر ولا حاجة تانية)    شاهد.. ماذا قال الناشط الشهير "الإنصرافي" عن إيقاف الصحفية لينا يعقوب وسحب التصريح الصحفي الممنوح لها    10 طرق لكسب المال عبر الإنترنت من المنزل    بورتسودان.. حملات وقائية ومنعية لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة وضبط المركبات غير المقننة    شاهد بالفيديو.. طفلة سودانية تخطف الأضواء خلال مخاطبتها جمع من الحضور في حفل تخرجها من إحدى رياض الأطفال    جرعات حمض الفوليك الزائدة ترتبط بسكري الحمل    ريجيكامب بين معركة العناد والثقة    تعرف على مواعيد مباريات اليوم السبت 20 سبتمبر 2025    الأمين العام للأمم المتحدة: على العالم ألا يخاف من إسرائيل    لينا يعقوب والإمعان في تقويض السردية الوطنية!    حمّور زيادة يكتب: السودان والجهود الدولية المتكرّرة    حوار: النائبة العامة السودانية تكشف أسباب المطالبة بإنهاء تفويض بعثة تقصّي الحقائق الدولية    الطاهر ساتي يكتب: بنك العجائب ..!!    صحة الخرطوم تطمئن على صحة الفنان الكوميدي عبدالله عبدالسلام (فضيل)    «تزوجت شقيقها للحصول على الجنسية»..ترامب يهاجم إلهان عمر ويدعو إلى عزلها    وزير الزراعة والري في ختام زيارته للجزيرة: تعافي الجزيرة دحض لدعاوى المجاعة بالسودان    بدء حملة إعادة تهيئة قصر الشباب والأطفال بأم درمان    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تأملات في رؤية مانديلا للحوار « و كلام ساكت لدكتور حيدر إبراهيم »..عبد الدائم زمراوي المحامي *
نشر في الانتباهة يوم 14 - 04 - 2014

كان أبي -رحمه الله كعامة الناس في زمانه لم ينل قدراً يذكر من التعليم , إلا أن تجارب الحياة عركته و أورثته قدراً من الحكمة و بعد النظر. و بحكم سن الشباب كنت كثيراً ما أدخل معه في مجادلات في كثير من الشؤون الحياتية , إلا أن هناك أمراً واحداً كان مثار نقاش طويل بيننا , فأبى رحمه الله كان يرى أن ترك شعر الشارب وافراً دليل على قلة العقل , وكنت أرفض ذلك بشدة ، لكن شاء القدر يوماً أن نلقى رجلاً بتلك الهيئة و قد تصرف تصرفاً فيه الكثير من السفه- ضعف العقل إلا و أجد أبي قد إلتفت إلي قائلاً «خد عندك».
إطلعت على مقال لدكتور / حيدر إبراهيم في صحيفة الراكوبة الإلكترونية و قد تصدر المقال صورة له فرأيت شارباً وافراً فتذكرت أبي و دعوت له بالمغفرة .
المقال تحت عنوان « السودان و القدر الساخر أو عقلانية الحلو - مر»
يمكن تلخيص جوهر المقال في عبارة موجزة إلا و هي « استهزاء و سخرية بالعقل السوداني » مطلق السوداني.
لكن لماذا سخر الدكتور صاحب العقل « الإنجليزي» من العقل السوداني؟
السبب حسبما ذكر الدكتور هو الدعوة التي انطلقت «للحوار الوطني» نعم والله هذا هو السبب ؟ دعونا نستهل بمقدمة صاحب « العقل الإنجليزي» ماذا قال ؟ قال «هذا مقال رسالة للداعين لحوار مستحيل و المهرولين يحسبون السراب ماءً و لرافضه يعوزهم البديل الفعال الذي ينسف دعوة حوار المستهبلين».
أرأيتم كيف جمع الدكتور الأطياف السياسية كلها من دعا و من شارك و من عارض ، وكيف فات عليهم أن هذا حوار مستحيل ، إلا أن رحمة الله الواسعة أرسلت إليهم الدكتور ليخبرهم بذلك.
لكن لماذا يبدو في نظر « المفكر العملاق » هذا الحوار مستحيلاً ؟
قبل الإجابة أرى أن أورد المناسبة التي ذكرها الكاتب لكتابة مقاله , قال: « لهذا المقال مناسبة قد تبدو غريبة و لكنها منطقية حسب ما نعيشه هذه الأيام و هي مرور 60 عاماً على صدور كتاب الصحافي البريطاني «انتوني مان» الذي جاء لتغطية انتخابات الحكم الذاتي عام 1953م».
هذا الصحفي حسبماً أشار الدكتور أصدر كتاباً من وحي رحلته للسودان اسماه Where God Laughed ,The Sudan to Day .
وتساءل د. حيدر ما الذي رآه الخواجة فأوحى له بهذا العنوان ؟ وهذه الفكرة؟ أجاب الدكتور «من الواضح أن طريقة الانتخابات التي جاء لتغطيتها أثارت اهتمامه . فهو لم يجد برامج حزبية أو مناظرات فأورد صوراً لرموز المرشحين المرسومة على السبورة أو مدبسة على جلابيب مواطنين لتوجيه الناخبين ». إذاً سخرية الصحفي الإنجليزي مما رآه في عام 1953م و اختياره عنواناً مستفزاً لكتابه شكل مناسبة عظيمة للدكتور للاحتفاء بها و إيرادها لتكون منطلقاً لإيراد سخرية جديدة من «العقل السوداني». لكن ألا يدل إيراد تلك الواقعة على ضعف الهمة الوطنية إن لم نقل سقوطها ، أليست هي محاولة يائسة و بائسة لطي الحقائق التاريخية و تزييفها ، هل نُسلم فعلاً بما قاله الصحفي الإنجليزي بحسبان أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ، ألا تذكر وقائع التاريخ، دور الرعيل الأول و ما رافق قيام مؤتمر الخرجين من مناظرات و مطارحات ، ألا يذكر التاريخ أطروحات الداعين للاتحاد تحت التاج المصري و أولئك المنادين بشعار السودان للسودانيين ، ألا نذكر مذكرة الخرجين للحاكم العام و مطالبتهم بحق تقرير المصير.
عندما تكون الأمة تحت الاستعمار ، ما هو البرنامج الذي يعلو و لا يعلى عليه غير جلاء للاستعمار و إحلال للقوى الوطنية مكانه ، لقد كانت الفترة من 1953م و حتى إعلان الاستقلال فترة انتقالية هدفها الأساسي « السودنة».
أما أن الشعارات مدبسة على الجلابيب ، فتلك مسؤولية من؟ مسؤولية السودانيين الذين قدموا عشرة آلاف شهيد في صباح يوم واحد في كرري في ثبات قل نظيره و اعترف به العدو قبل الصديق، حماية لبلادهم و حرياتهم و عقلهم الذي يدرك عظمة و قيمة تلك الحرية .
هل هي مسؤولية شعب أُخضع بقوة السلاح الناري لإرادة و إدارة إنجليزية حاربت انتشار التعليم دون هوادة ورغم ذلك لم تلن الإرادة الشعبية، فكان ما كان من أمر التعليم الأهلي.
ألم يكن من الوفاء لدماء الشهداء التي سالت في كرري و غيرها و تضحيات الآباء و المؤسسين ، بل ألم يكن من الوفاء لقيم الحرية و المساواة و النضال ورفض الممارسات الاستعمارية، أن يُنتقد الصحفي الإنجليزي و كتاباته التي تجاهلت دور حكومته الاستعمارية، في تجهيل السودانيين و إذلالهم و سرقة خيرات بلادهم ، أم أن عقل الدكتور «الإنجليزي» مبرمج على حب أصحاب العيون الزرقاء.
أرأيتم كيف احتفل الدكتور بمرور «60» عاماً على صدور كتاب الصحفي الإنجليزي ؟ ثم استطرد الدكتور قائلاً سؤالي و حافزي لهذا المقال : هل ما زال القدر يضحك على ما يجري في هذه البلاد أم أنه صار ضحكاً كالبكاء!!؟ و لأن الدكتور محب للعقل «الإنجليزي » لم يفته شرف الإستشهاد به فقد قال لقد لاحظ «مان» تساكن المتناقضات لدى السودانيين. عود على بدء ، لماذا رأى الدكتور أن الحوار مستحيل كما أشرنا في صدر المقال؟
لقد أورد الدكتور أسباباً لذلك ، السبب الأول الذي ذكره أجمله فيما يلي «من البديهيات أن أي حوار مهما كان مجاله فلسفياً أو دينياً، مشروط بالحرية المطلقة و عدم وجود ما يهدد المرء لو عبر عن آرائه كما تدور في رأسه». بعد أن أورد هذا السبب عاد سيادة الدكتور ليبين لنا « تناقض العقل السوداني » فقال « ولكن عبث السودانيين و سخرية القدر منهم أنهم يتحاورون تحت ظل ترسانة القيود الأمنية و تحت سيطرة جهاز يظن أنه القضاء و القدر ......الخ».
ثم عاد مجدداً ليؤكد تناقض «العقل السوداني» فقال « وقد يرى السودانيون في الوضع الراهن، بعضاً من تفرد السودانيين الذي يميزهم عن بقية الناس ، فهم يمكن خلافاً للطبيعة أن يتحاوروا تحت رعاية أكبر امنوقراطية معاصرة و أكثرها قمعاً و تخلفاً».
ثم ما هي بقية الأسباب التي تجعل الحوار مستحيلاً يا دكتور يا صاحب « العقل الإنجليزي». قال سيادته ما يلي « من مقومات أي حوار الاتفاق حول حد أدنى من القضايا لتجنب ما يسمى بحوار الطرشان».
أرأيتم كيف كشف لنا سيادة الدكتور أسباب إستحالة هذا الحوار؟
ليت المناضل العظيم «مانديلا» كان حياً لأنقل له هذه «الفتوحات الإنجليزية » لابن إبراهيم و أشرح له كيف أخطأ خطأً تاريخياً وهو يحاور نظام دي كليرك العنصري في جنوب أفريقيا.
لماذا يا «مانديلا» حاورت نظاماً عنصريا ًيعتبر الجنس الأبيض أرقى مقاماً من السود؟ لماذا حاورت نظاماً يبطش بالأغلبية و يقمعها و يقتلها ،؟لماذا حاورت نظاماً يجعل للسود مدارسهم و مطاعمهم و أنديتهم و يجعل للبيض مثلها ؟لماذا حاورت نظاماً يقيم «كانتوانات» من الصفيح ليزدحهم فيها السود، بينما الأقلية البيضاء مترفة ؟ لماذا يا «مانديلا» حاورت نظاماً سجنك ورفقاء النضال «26» عاماً مع الأشغال الشاقة؟
ماذا كسبنا يا « مانديلا» من محاورتك لنظام «دي كليرك» هل جنينا إلا جمهورية تعترف أن البشر سواء أياً كان لونهم ، ألم تورثنا جمهوريتك ديمقراطية تعترف بحق الأغلبية، و مواطنة، و عيش مشترك بين كافة أطياف شعب الجنوب الأفريقي.
ألم ينتج عن حوارك للنظام العنصري يا منديلا- إن قبلت بما سميته الحقيقة و المصالحة، عوضاً عن المحاكمة و القصاص.
لكن عفواً «مانديلا» نم قرير العين أيها المناضل العظيم فقد أثنى « العقل العالمي» على شجاعتك و إنسانيتك ورجاحة عقلك و بعد نظرك و ترفّعك عن الثأر، لقد خلقت أيها المناضل العظيم واقعاً تفتخر به أفريقيا و غدا العالم يحتذيه مثلاً في قهر المستحيل.
للعجب أو للأسف لم ير الدكتور في القضايا التي طرحها رئيس الجمهورية، كمحاور للنقاش و التداول وهي قضايا السلام و الديمقراطية، و التداول السلمي للسلطة، و قضايا الاقتصاد ، و ما تدافعت به القوى السياسية المشاركة، من ضرورة تشكيل حكومة انتقالية، تشرف على إنفاذ ما يتفق عليه بشأن تلك القضايا، و تعد القوانين لانتخابات قادمة، و تشكيل آلية مستقلة لإدارة الحوار ، أو ما اشترطته القوى الرافضة، من وجوب تهيئة مناخ الحوار بإلغاء القوانين المقيدة للحريات و إطلاق سراح المعتقلين ووقف الحرب. لم ير الدكتور في اعتراف النظام القائم صراحة أو ضمناً -و إقراره بفشله في تحمل الأعباء لوحده، و سعيه مكرهاً أو قناعة لالتماس العون لإخراج البلاد مما هي فيه ، لم ير في كل ذلك إلا دليلاً على تناقض «العقل السوداني » و تهافته.
لا يأبه الدكتور كثيراً للآراء الصادرة من الجهات الإقليمية و العالمية، كالاتحاد الأفريقي و مجلس الأمن أو الدول الصديقة و الشقيقة، التي أشادت بالحوار بحسبان أنه منهج إنساني رفيع لحل النزاعات و الخلافات ، وحثت كافة الفرقاء السودانيين للمشاركة فيه.
كان المأمول و قد رفض الدكتور الحوار المطروح و عده مستحيلاً، أن يتكرم و يكتب لهذا الشعب المسكين روشتة علاج يتلمس بها طريقه نحو الخلاص ، ولكن ماذا سيقول الدكتور ؟ هل سيقول حاربوا النظام القمعي و أسقطوه ؟ لقد فعلنا و ما زلنا نفعل في جنوب كردفان و دارفور و لم نحصل من ذلك إلا على دمار و خراب للممتلكات و إزهاق للأنفس البريئة، أم نقوم بانتفاضة أخرى فقد جربنا و لم نستطع هذا البديل الفعال كما أشار ، مالي أرى الدكتور ضنيناً و بخيلاً برأيه الصائب كحال تلك الإعرابية التي خلدها الشاعر بالقول:-
قوم إذا إستنبح الأضياف كلبهم قالوا لأمهم بولي على النار
فتمنع البول شحاً أن تجود به و لا تجود به إلا بمقدار
يبدو أن تناقض « العقل السوداني» قد شغل عقل الدكتور «الانجليزي»، فطفق ينقب في التاريخ عساه يجد شواهد على دعواه ، ثم أتانا كما فعل العالم «أرخميدس » من قبل قائلاً وجدتها وجدتها، و لفرحة العالم كان عارياً من ملابسه، أما الدكتور فمن المؤكد أنه كان عارياً من عقله.
أما الحادثة التاريخية، فقد ذكر الدكتور أن سبب غزو الملك بادي أبو قرون لمملكة تقلي إنما كان انتقاماً لصديق له، أسره ملك تقلي و تحادث معه بما يفيد عجز الملك بادي من الوصول إليه ، ثم بين أن الجيشين كانا يتقاتلان نهاراً و يكرم أحدهما الآخر ليلاً بحمل الطعام له ، ثم خلص الدكتور من هذه الحادثة للقول « هذه عقول حكام يستخفون بأرواح البشر حروب تندلع لأسباب تافهة و تتوقف لأسباب أتفه ، قوم يتقاتلون نهاراً و يكرمون أعداءهم مساءً و يعاملونهم كضيوف عقل مضطرب تتداخل فيه الأسباب و النتائج ، أو تختلف فيه المقدمات عن النتائج النهائية».
إن الأمانة التاريخية لتدعونا أن نتحقق أولاً من حقيقة الاقتتال و سببه ، ولقد علمتنا تجارب التاريخ كم من سبب ظاهر للحرب، خلافاً للأسباب الحقيقية المستبطنة في عقول القادة ، وكم من أسباب يُقصد بها ذر الرماد في العيون أو الإستهزاء أو السخرية من الخصوم.
لكن أياً كان الأمر فلن يجد منا الدكتور إلا إدانة لأي سفك لدم لأسباب غير مشروعة.
لكن السؤال هل اختص « العقل السوداني» و انفرد بتلك المزية و صارت حكراً و ماركة مسجلة له ؟ أم أن ذلك أمر أياً كان موقفنا منه شائع بين بني البشر على مر الحقب و الأزمان .
ثم ندعو الدكتور ليوضح لنا أسباب قيام الحرب العالمية الأولى التي أفنت الملايين و هدمت المدن ، بل لماذا نذهب بعيداً ، فليوضح لنا الدكتور ما هي الأفكار و الدوافع التي قادت القائد الألماني أدولف هتلر لقتل الآلاف من البشر من اليهود و غيرهم و دفعت ضمن أسباب أخرى لقيام الحرب العالمية الثانية بكل أهوالها و عذاباتها و ما عانته البشرية جرَّاء ذلك؟
الشعب أو الأمة يا سيادة الدكتور لا يحكم عليها فقط بمجرد تصرفات من حاكم مستبد باطش، حتى لو كانت له حاشية من المنتفعين و المنافقين و حارقي النحور.
إن حملة الدكتور على « العقل السوداني » لم تكتمل بعد فقد قال « يكشف مهرجان الحوار المنصوب
هذه الأيام عن عقل التناقضات و المفارقات الذي يثقل كاهل الإنسان لتاريخ طويل ، فهي تتساكن وتتعايش دون أن يحاول أحدهما طرد الآخر و لهذا ظللنا ننعم بهذا التفكير المشوش و الغرائبي الغارق في الغيبيات و الخرافات ولم يفلح التعليم الحديث و الاحتكاك مع الآخر في تغييره؟
أنظر إلى هذه التعابير الملتوية و المتوارية ، نسأل الدكتور ما هو التفكير المشوش و الغرائبي؟.
أرجو ألَّا يقفز الدكتور ليتهمنا بالإرهاب الفكري و مصادرة حقه فيما يعتقد ،لا ، لكن من حقنا و قد ساق كل تلك الإتهامات «للعقل السوداني» أن نعرف ماذا يقصد الدكتور بتلك العبارات الملتبسة.
وفي ذات استطراده عن « العقل السوداني» ختم الدكتور مقاله بأن وصف التفكير و العقلانية السودانية بالقول أسميتها « عقلانية الحلو مر، لأنها لا تستطيع أو لا تريد أن تحدد هل هو حلو أم مر و نحن الذين نقول كلام ساكت نجعل الكلام ساكتاً بسر حرف كن!!».
نعم « العقل السوداني» يا دكتور يؤمن بسر حرف «كن» لمليك جبار مقتدر ، هذا أمر لا شك فيه لدينا ، و التعليم الحديث الذي أشرت إليه و الاحتكاك مع الآخر لم يزد إيماننا بذلك إلا قوة و عمقاً ، لأننا نرى آيات ذلك في الآفاق و في الأنفس بل أن غيرنا ممن له باع أطول في العلوم الحديثة قادته معرفتة للإيمان بالمليك الجبار صاحب سر حرف «كن».
أما إيرادك لعبارتي «كلام ساكت» و «الحلو ، مر» للدلالة على تهافت و تناقض « العقل السوداني » فألتمس لك العذر في المقولة السائرة « من جهل شيئاً عاداه» فعبارة «كلام ساكت» أصلها «كلامك كالساكت» و لأن المثل يحسن فيه الإيجاز و السهولة فقد حذف الضمير و أداة التشبيه فصار «كلام ساكت» و هذه من درر « العقل السوداني» و هي ليست منبتة، فلها أصل شرعي و عقلي يشهد لها ، فالقاعدة كما قررها الفقه و القانون هي « لا يُنسب لساكتٍ قول ولكن السكوت في معرض الحاجة لبيان بيان» فالساكت لا رأي له في الأمر المطروح ، فأخذها العقل السوداني ووصف بها الكلام الذي لا قيمة له ، فجعل المتكلم و الساكت سيان و هو عين ما تفضلت به علينا. أما حديثك عن « الحلو , مر » و أن «العقل السوداني» لا يريد أن يحدد هل هو حلو أم مر ، فلا أجد مقولة تنطبق عليه أصدق من القول «إنما شفاء العيَّ السؤال» فقد خيل لك عقلك أن المر هو نقيض الحلو ، ولكن ليس الأمر كما ذهبت إليه ، فنقيض الحلو في العامية السودانية هو المسيخ و أظنك سمعت بالدعاء «تمسخ عليك عيشتك » «و المر» في اللسان السوداني بمعنى حادق أو لاذع , فهو شراب حلو لكنه لاذع المذاق ، وأحسبك قد سمعت قول بعضهم «شرابنا المر » و لو تدبرت قليلاً في مكونات هذا الشراب لأدركت الحكمة من وراء التسمية .
لكن أهم من ذلك كله أن يبين لنا سيادة الدكتور و هو الموصوف بأنه رجل أكاديمي و صاحب مركز للدراسات، المنهج الذي يسمح له أن يتبنى وصفاً « لعقل شعبٍ» إستناداً على عبارتين وواقعة تاريخية يتيمة إن صحت ، «شعب» يا سيادة الدكتور ليس كماً مهملاً ملقى على قارعة الحضارة البشرية ، بل فاعل أصيل شيّد حضارة قبل آلاف السنين تقف شاهدة عليها الأهرامات و الآثار في نوري و البركل و النقعة و المصورات ، ناهيك عن الممالك و السلطنات الأخرى التي سادت في طول البلاد و عرضها . هل هذا حقاً منهج علمي ؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون كره فكري لطائفة اختلط مع إحن و غضب ربما كان وليد فعل ظالم من قِبل النظام. أياً كان الأمر فقد علمني معترك الحياة العامة، أن بعض المنظمات الطوعية و مراكز الدراسات تقتات على مصائب الشعوب و أزماتها ، ولذلك تحذر من أن يظهر في الأفق بريق أمل في حلها ، و إن قُدر له أن يظهر فسرعان ما تتناوشه بالأساليب التي خبرتها ، وأحسب أن وصف الحوار بالمستحيل، و شيطنة كل من يسعى إليه ليس ببعيد من تلك الأساليب.
* وكيل وزارة العدل السابق و قاضي محكمة الاستئناف الأسبق


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.