السودان يسعى بخطى حثيثة نحو الاستقرار والتنمية تحت ظل المتغيرات المطَّردة في العالم العربي والإسلامي وما يدور بساحته الداخلية من أحداث تتطلب قراءة متأنية لمآلاتها والرؤية الاستراتيجية لوضع الحلول لها.. وتقييماً للوضع «الإنتباهة» جلست إلى البروفيسور د. حسين سليمان أبو صالح حد القيادات السياسية ووزير الخارجية الأسبق لتناول ما عَلِقَ بالساحة السودانية من قضايا والاستهداف الخارجي الذي يتعرض له سعياً لتفتيته من خلال سياساته المختلفة، إذ يرى بروف أبو صالح أن أمريكا على وجه الخصوص هي السبب في إشعال الحرب في جنوب كردفان والنيل الأزرق لتحقيق أهدافها واستراتيجيتها نحو السودان الذي يجب عليه ألا يأمن لها.. كما تحدث عن الرؤية المستقبلية لوثيقة الدوحة، مؤكداً أنها تسير بخطوات ثابتة نحو النجاح بفضل أسلوب د. السيسي، وتطرق خلال حديثه إلى الضائقة المعيشية التي يمر بها السودان وأسبابها وكيفية الخروج منها.. وتناول أيضاً أسباب غياب وابتعاد العقول القومية النيرة عن المشاركة في نهضة البلاد، وفي إطار تناوله لقضية سعي الأحزاب القومية للمشاركة في الحكومة وعدم وضوح موقفها منها تساءل عن ماهية هذه المشاركة، منبهاً إلى أن السودان بحاجة إلى همَّة وطنية عالية، وأن برنامج المشاركة مؤقت ويستطيع أي شخص القيام به.. كما تناول العديد من القضايا ذات البعد الاستراتيجي السياسي والمفصلية.. فإلى إفاداته بالتفصيل: ما تعليقك على أحداث النيل الأزرق وجنوب كردفان؟ أولاً يجب ألا يكون هناك ما يسمى الجيش الشعبي في الشمال على الاطلاق، واي متمرد يجب أن يوقف تماماً، وتحالف كاودا يسعى لإسقاط النظام بالقوة وهذا غير وارد ولن يحدث. كيف تُقيم وثيقة الدوحة وما شابها من تقاطعات عديدة؟ استمرت اتفاقية وثيقة الدوحة وبحضور الجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي والاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة وغيرها من المنظمات، واستمرت المفاوضات سنتين ثم تأتي امريكا لتلتف حولها خلال يومين فقط بالورشة التي دعت السودان للمشاركة فيها مع قوات الحركات المسلحة المتمردة وما يسمى «تحالف كاودا» الذي يهدف لإسقاط النظام ونشر الزعزعة والتوتر في السودان، وهذا يؤكد أن أمريكا لا تقف قلباً وقالباً مع اتفاقية الدوحة، وتريد أن تقتلها، وقد كان عدم مشاركة الحكومة في هذه الورشة قراراً صائباً، ويجب الإبقاء على الدوحة وتنفيذها، ومن لم يشارك فيها يُعامل كالخارج عن القانون. إذن دعوة د. السيسي لمحاربة النعرات القبلية مؤشر صحي لسير تطبيق الاتفاقية؟ أسلوب د. السيسي سليم جداً، ولكن أعتقد أن مشاركته في ورشة واشنطون لا معنى لها ومجرد نزهة لامريكا، وحتى قطر كان يجب ألا تقبل بهذا بعد الجهد الذي بذلته في وثيقة الدوحة وما ترتب عليها من نجاح. برأيك ما هي الرؤية الاستراتيجية لمعالجة الأوضاع في السودان؟ أولاً هناك عمل علمي ضخم وكبير بمستشارية الأمن القومي قامت به أكثر من «20» جامعة، وكل مراكز البحوث ومجموعة من العلماء قاموا بتحضير أكثر من «60» ورقة تشمل كافة قضايا السودان من اقتصاد وسياسة واجتماع والخدمة المدنية وكل القضايا الاخرى، وهو حديث علمي لا يصدر عن أفراد أو أحزاب بل عن جامعات عريقة، ولكنه الآن معطل، ومن هنا أناشد رئيس الجمهورية أن يسمح للقوى السياسية جميعاً من معارضة وقوى مستقلة بالجلوس والاستماع لهذه الاوراق والتفاكر حولها في سبيل التقدم نحو الاستقرار والنماء للبلاد، وأن تعطيله غير مقبول وغير منطقي، وهو عمل أفضل كثيراً من مؤتمرات الوطني التي يقيمها، لأنه حزب يقوم بالتقويم والمراجعة التي يجب أن تكون علمية، وكنت أتمنى أن يصل الناس بعد الطرح العلمي إلى وثيقة وطنية تكون هي الهادية للدستور الجديد. ما هي أسباب ابتعاد العقول القومية النيرة عن المشاركة للنهوض بالبلاد؟ يعود ذلك الى عدم رضائهم بالأحزاب السياسية الموجودة وهي تقدم أفكارها، ولكن ليس هناك من يسمع لها، وأنا أعتقد أنهم سلطة علمية خامسة يجب الاستماع لها، وأدعو كل الأحزاب الى الاستماع لما يقدمه هؤلاء العلماء لإيجاد حوار جاد ولتكتمل الصورة بالوجود على أساس جماعي وليس فردياً. هل ما يدور من جدل الآن حول الدستور ستكون له انعكاساته على مضمونه؟ هذا الدستور الآن إذا حُذفت منه البنود المتعلقة بالجنوب سيصبح من أعظم الدساتير التي وُضعت، مع الاستعانة بالاجتهادات العلمية التي ذكرتها سابقاً، والتوافق الوطني يُبنى على هذه الجهود المتضافرة. ما تعليقك على سعي الأحزاب للمشاركة في السلطة في ظل ما يدور بالساحة من استقطاب سياسي حاد؟ أية مشاركة يتحدثون عنها وعلى أي اساس تقوم؟ فالوضع الآن بحاجة الى قوة ورجال لديهم همة عالية وارادة لحل مشكلات البلد والنهوض بها الى الأمام، وبرنامج المشاركة مؤقت ويستطيع اي شخص ان يقوم به، ولكن القضية تصب في الاساس المتين الذي تبنى عليه، بحيث لا يوجد اي خلاف على الاهداف الاستراتيجية الكبيرة حتى تتقدم البلاد ويُستبعد اي مخرب بعيداً، وعمل تقويم لما حدث لمعرفة الصحيح من الخطأ، والإتيان بأفكار جديدة، والسودان مليء بالعقول النيرة ولكنها بعيدة عن المشاركة، والبلد بحاجة لفكر كل أبنائها ولروح وطنية تتعالى على الأحزاب والانقسامات، وما يحدث من استقطاب سياسي يصدر عن أشخاص يريدون أن يبدأوا من الصفر من خلال إسقاط النظام، وهذا حديث غير منطقي وغير عقلاني، وهم ليست لديهم القوة للقيام بهذا، والبدء من الصفر سيؤدي إلى هدم ما تم بناؤه، لهذا يجب استصحاب كل الإيجابيات السابقة والسير إلى الأمام. بعض الأحزاب تتحدث عن ضرورة إيجاد فترة انتقالية جديدة.. كيف تقرأ ذلك؟ الفترة الانتقالية لن تأتي إلا بإسقاط نظام قديم بطريقة عنيفة بانقلاب عسكري أو مدني، وبعدها تكون هناك فترة انتقالية، وما حدث بانفصال الجنوب ومحاولة تمزيق السودان أعتقد أنها مرحلة جديدة تحتاج إلى همة وتفكير حديث للإبقاء على ما تبقى من السودان، وربما التفكير في إرجاع ما اُخذ منه بطريقة كانت غريبة وعجيبة. البعض يرى أن الضائقة المعيشية التي يمر بها السودان خطوة لقيام ثورة شعبية كما حدث في الربيع العربي وما ترتب عليها من تغيير للانظمة الحاكمة.. كيف ترى ذلك؟ هذا حديث عادي ويتحدث به منسوبو حزب المؤتمر الشعبي، وسمعت الترابي أيضاً يشير لذلك ، ولا أحد يتنبأ بما تخبئه صدور الناس، والشعب السوداني لا يستطيع أحد أن يتنبأ بما سيفعله، وهي أشياء لا تتم من قبل أحزاب أو نقابات أو جمعيات أو دول أجنبية، والشعب السوداني فريد في تحركه فإن وجد الأمور قد تأزمت لدرجة تحتاج للتغيير فإنه ليس بحاجة إلى وصية من أحد، وهو يختلف عن كل شعوب العالم ولا أحد يعرف ما يدور بداوخله بسهولة. ما هي قراءتك لهذه الأزمة المعيشية ومسبباتها والرؤية الاستراتيجية للخروج منها؟ أعتقد أن السبب سياسة التحرير غير المنضبطة التي تعمل ضد ذوي الدخل المحدود بنسبتهم الكبيرة، فهذه الأزمة تعود بنا لأوائل التسعينيات عند الدخول في سياسة التحرير، والناس كانت مجبرة عليه، ولا أدري لماذا، ولكن نتيجته أن الجنيه السوداني اصبح لا يساوي شيئاً امام العملة الأجنبية، مما أدى لافقار الملايين من البشر، وفي نفس الوقت نجد أن الجانب الاجتماعي ليس متعادلاً، وسياسة التحرير هي التي أوصلت الناس الآن إلى أن تكون تحت خط الكفاية، ولذلك فإن دراسات ما يسمى «التمويل الاصغر» لم يؤد إلى النتيجة المطلوبة، وهذه السياسات بحاجة إلى تقييم علمي بحت.