كما أشرنا أمس فقد كان التعامل مع التجربة الثانية لسيطرة القوات المسلحة على سدة مقاليد الحكم والسلطة في السودان على النحو الذي حدث بعد نجاح الانقلاب العسكري الذي قام به اليسار السوداني بقيادة الزعيم الوطني الراحل المرحوم جعفر نميري عام 1969م هو الامتحان والاختبار الذي تعرض له السيد الصادق المهدي من موقعه القيادي في كيان الأنصار وحزب الأمة في تلك الفترة، وخاصة في المرحلة اللاحقة لاستشهاد إمام الأنصار وزعيم الحزب آنذاك الإمام الهادي المهدي، وذلك نتيجة لمواجهته مع ذلك النظام. وكما هو معلوم فقد تولى السيد الصادق حينها، ونتيجة لتلك المواجهة واستشهاد إمام الأنصار وزعيم حزب الأمة الزعيم الوطني الراحل السيد الهادي المهدي، موقع الصدارة والزعامة لكل من الحزب والكيان الأنصاري الذي استمر في المواجهة مع النظام العسكري الحاكم بقيادة الزعيم الوطني الراحل المرحوم جعفر نميري، وقد استمرت تلك المواجهة حتى بلغت درجة حادة أدت إلى محاولة فاشلة لنقلها إلى العاصمة المثلثة بغزوة مسلحة كما حدث عام 1976م. وبعد مرور حوالي عام واحد على تلك المحاولة الفاشلة لنقل المواجهة مع السلطة الحاكمة إلى قلب العاصمة المثلثة، والإقدام على القيام بغزو مسلح لها، أدت تلك التطورات، والتداعيات التي نتجت عنها وترتب عليها إلى الدخول في مصالحة وطنية بين كل من الرئيس نميري والسيد الصادق المهدي. وفي كتابه الذي صدر عام 1980 بعنوان: «النهج الإسلامي لماذا»، تطرق نميري لقصة تلك المصالحة، وما حدث في اللقاء السري الذي عقده مع الصادق المهدي بمدينة سواكن على البحر الأحمر عام 1977م، حيث قدم قراءة لشخصية الصادق المهدي ورؤيته للعلاقة التي كانت قائمة بين الجيش والسياسة في تلك المرحلة أو تلك التجربة من تجارب النموذج السودني الساري والجاري حتى الوقت الحالي بشأن الدور السياسي للجيش الوطني. وفي الكتاب المشار إليه ذكر الزعيم الوطني الراحل المرحوم نميري وهو يتناول ما جرى في لقاء المصالحة السري الذي عقده مع السيد الصادق المهدي عام 1977م توجهت إلى سواكن بسيارة قدتها بنفسي، لم يرافقني سوى الطبيب والمرافق. وفي مطلع الليل دخل إلى الاستراحة ثلاثة هم مواطن كريم أنعم بصداقته، ومسؤول يتولى شؤون قصر الرئاسة، ثم هو ذلك الذي اجتهد فاختلف، اغترب وخاض في بحر الصدام، وأعلن مسؤوليته عن أحداث مضى عليها اليوم عام وبضعة أيام. ويضيف نميري: عانقت القادمين، صافحت الرجل، ثم وجدتني وإياه نتجه للعناق في لحظة واحدة. ثم انتقلت مع الرجل إلى غرفتي بالطابق العلوي من الاستراحة، ودار بيننا حوار انتهى بالوفاق. وقد بدأ من كان بما أكبرته منذ لحظة حضوره، بل في نفس اللحظة التي لمحته فيها.. فالرجل هو نفس الرجل الذي جرت محاكمته غياباً وحُكم عليه بالإعدام.. وهو نفس الرجل الذي ما أخفى عداءه، ولا تنصل عن مسؤوليته، وعن أحداث سالت فيها دماء.. الرجل هو نفس الرجل الذي هاجم وهوجم، وكان مطلوباً للقصاص منه. ويضيف المرحوم نميري كما ورد في كتابه المشار إليه عن رؤيته لشخصية السيد الصادق المهدي فيذكر: إن الرجل يحضر طوعاً للسودان، لا يحرسه مما يمكن أن يسميه هو الغدر، ويسميه غيره العدل، سوى ثقة في واحد من الناس، هو خصمه وغريمه.. وقد كانت شجاعته دليلي على صدقه، وقد كان صادقاً.. حيث أخبرني أن أهله الذين كانوا حوله قد ودعوه بالبكاء، واحتسبوا فيه الرحمن، وودعوه وداع راحل لن يعود.. فقد حاولوا طوال أيام أن يثنوه عما اعتزم لكنه أصر على ما انتواه. وسألته والفجر يطل علينا بعد ليل ساهر.. وأنت ألم يهتز قلبك وشككت مجرد الشك، فقال: مطلقاً.. وأسأل: لماذا؟ فقال: لأننا سودانيون قد يبلغ بيننا الصدام الدم لكننا لا نخون العهد، ولا نقدس من قيم الحياة أكثر من فضيلة الوفاء.. وحينها بدا لي أن ما حدث قبل عام ما كان له أن يكون.. فالرجل هو الذي حمل لواء الهجوم على الطائفية، وأعلن كفره بالحزبية، وله تصوره حول التنظيم السياسي الشامل حتى ولو اختلفت تفاصيله عما هو قائم..