بعد أن نستعيد بالله من الجهل وسوء عاقبته، لا يسعنا إلا أن نترحّم على القتلى جميعاً من أهلنا أولاد عمران وأهلنا الفلايتة الذين سقطوا جراء هذا الاقتتال الذي راح ضحيته المئات من الشباب والشيب، ولعلمي أن الذين راحوا ضحية هذا الاقتتال هم من خيرة الشباب. فقد تطوّر النزاع التقليدي الذي سئمناه من مجرّد خلاف على بضعة مخمسات من الأرض البوار التي يمكن أن تحل بتسوية ودية كما هو الشأن دائماً في الولاية المغلوبة على أمرها إلى مواجهات عشائرية مؤسفة هدفها الاستئصال الكامل لمجموعة ضد أخرى، لقد أعدّت المعسكرات وتدرّب فيها الناس استعدادا ليوم الفصل والمواجهة، وكانت هذه المعسكرات معروفة لكل من له أدنى إلمام بالمنطقة وتطوراتها، كما ثارت العديد من الشائعات حول من يمولون تلك المعسكرات ولا تستنكف أياديهم ولا ألسنتهم عن سفك الدماء الحرام، والتي هي بنص الحديث الثابت عن رسول الله: أعلى حرمة من الكعبة. إن من موّلوا تلك المعسكرات أو حتى من علموا بوجودها وصمتوا كالشياطين الخرس كلّهم في الوزر سواء، وقد باءوا بالفضيحة في الدنيا لقلة مبالاتهم بدماء أهلهم وأنانيتهم في استغلال دمائهم وأرواحهم سُلّما يصعدون به مراقي السياسة أو لإرضاء بعض من ذوي النفوس المريضة، كما سيبوءون بالإثم يوم القيامة، وذلك هو الخسران المبين. ومهما يقل القائلون عن الأسباب الجذرية التي أدت وتؤدى الى تلك الإحن، فإن وراءها سببا واحدا أصيلا تنتهي اليه كل الأسباب الأخرى وتصدر عنه تفريعاتها، إنه أيها السادة تراجع الدولة وتراخي قبضتها عن تفعيل القانون وفرضه فرضا على إنسان المنطقة وكل تنظيماته المجتمعية الموجودة، فإذا شعر الناس بوجود الدولة ومؤسساتها القمعية، وإن علموا أن المتعدّي سوف يؤخذ بجرمه عاجلاً او آجلا، وإذا أدركوا أن يد العدالة سوف تطولهم في نهاية الأمر، لرأينا تراجعا كبيرا في حالات الموت المجاني التي أضحت محلا للتندر في السودان عند الخاصة والعامة ممن لهم أدنى إلمام بالمنطقة. لا مناص من سُلطان وقوَّة تكف أيدي الجهلاء والمتعدين والفسَّاق عن حقوق الناس وأعراضهم ودمائهم والتنكيل والتمثيل بأجسامهم، ولا أقول إن هناك دوراً فاعلاً للمثقفين والقيادات السياسية والمدنية بالمنطقة، لأننا إن أردنا «الكلام الدغري»: إن البعض منهم جزء من المشكلة في صور عديدة وشتّى بخلافاتهم التي لا تنتهي وسعيهم البليد لمصالحهم الضيقة وفقدانهم مصداقيتهم وغيبتهم الطويلة التي غيبتهم وجدانياً عن منطقتهم وجعلتهم بعيدين عنها روحا وحساً وفكرا، إنهم ليسوا بقادرين على المساعدة حتى في إحلال الأمن والأمان، هذا إن رغبوا في تحقيقه اصلا، والشواهد على ذلك كثيرة. لذلك فالنداء كل النداء لأجهزة الدولة وتلك المعنية منها بفرض الآن أساساً من جيش شرطة واستخبارات وأمن، هلموا الى فرض النظام بالمنطقة بالقوة، واضربوا بيد من حديد كل من حاول التلاعب بأمن المواطن. لقد كان دور الحكومة المركزية سالبا، لأنها لم تقدّر خطورة الوضع بالمنطقة حق قدرها، ولم تدفع لذلك بالمزيد من القوات الى المنطقة المحتضرة، كما أن حكومة الولاية مع تقديرنا لجهدها - إلا أنه دون الطموح، بدليل الحالة التي تعيشها الولاية في الوقت الراهن. هناك حاجة ماسّة الى أن تعيد الولاية صياغة سياستها فيما يتصل بالقتال العشائري الذي استعر بها، بشرط أن يكون القانون والعدالة الناجزة هما عمود التصدي له وليس الربت على الأكتاف والتباكي وتصوير الضحايا كشهداء والقتلة كقلة متفلتة قد غرّر بها أو أغواها الشيطان، ويتبقى أن تبدأ التحريات المستقلة من الآن لتبحث في عدة قضايا متداخلة أهمها جميعا أين وجدت هذه المعسكرات؟ ومن مولها؟ ومن أشرف عليها؟ وكيف يمكن أن يؤتى بالقتلة الى العدالة مهما كانت التضحيات ويتمّ تعليقهم في المشانق؟ او يترك الأمر هكذا ونرى لاحقا جزءا كبيرا منهم سيموت ظلما فبالله أين نحن من قول عمر: لو عثرت بغلة بالطرُق لحسبت أن الله سيحاسبني عليها. يا أيها العقلاء بولاية غرب كردفان، اوقفوا وفوراً كل أمل لكم في نخبكم الحديثة، فإنها أدمنت الخصام والتدابر والإقصاء والتنافس على الحطام وحب الدنيا، وجمع أصوات الناخبين الضعفاء اثناء الانتخابات، فو الله ليس وراءهم خير لكم بعد ان أصبحوا نماذج في السودان من بين رصفائهم وأقرانهم في التخاذل والتناجُش والبُعد عن هموم أبناء جلدتهم، وأوقفوا بالله عليكم إرسال الوفود الى المنطقة وابعثوا بها تباعا إلى أجهزة الدولة وطالبوها بالتدخل الفوري وتحمّل مسؤولياتها لإيقاف العبث الذي سئمنا حتى ذكره، كما عليكم أن توقفوا ايضاً مؤتمرات الصلح الفارغة التي أحصينا منها الى الآن مئات عدّة لم تؤد إلى شيء، بل زادت من تعقيد الموقف بإيجادها دائماً وسائل الإفلات من العدالة. أتقدم بشكري إلى لجان الشباب خاصة بمدينة المجلد الذين بذلوا الغالي والنفيس في سبيل إحقاق الحق ووقف الاقتتال العبثي بعد أن ساهموا في إرجاع العديد من الأموال من (أبقار وضأن وأغنام) لأصحابها إلا ان ما حدث يفوق حدود إمكانياتهم ومقدورهم، فلهم التحية مجدداً. ثم يبقى السؤال المنطقي: لماذا لم تتدخل الدولة في هذا الصراع بالذات