كتبتُ من قبل عن جنوب كردفان وبعض من ذكريات عن النيل الأزرق التي بدأت بها حياتي العملية كضباط في القوات المسلحة في رتبة الملازم من ضمن أول قوّة تكلَّف بحراسة خزان الرصيرص ولم يمضِ وقتها على تخرجي في الكلية الحربية ثلاثة أشهر فكانت البداية من هناك وكانت المهام حراسة أكبر منشأة لتوليد الكهرباء النظيفة والخط الناقل للكهرباء إلى الخرطوم ومدن الشمال. أما جنوب كردفان فكانت المحطة الأخيرة التي ختمتُ بها خدمتي العسكرية الميدانية والقيادية كقائد لتشكيل مكلف بمهام قتالية وبين هذه وتلك ما يزيد على الخمسة والعشرين عاماً. ونكتب عن الاثنين كيف كانتا وكيف أصبحتا اليوم.. ونبدأ بالنيل الأزرق حيث كانت البداية والعام 1969م 1970م والخزان يقف شامخاً تخرج من هدير مائه طاقة نظيفة تذهب كلها شاملاً، والرصيرصالمدينة هي مركز الإقليم وعاصمته ومدينة الدمازين كانت مركز إدارة الخزان فيها معتمد الخزان واركان حربه هندسة وكهرباء وري. بعد خروج الشركات العالمية والمحلية المنفذة للخزان أصبحت المدينة خاوية على عروشها عدد كبير من المباني غير مأهول وأصبحت مرافقها الضخمة مهجورة، كانت المدينة في فترة إنشاء الخزان تعيش حياة مدنية غريبة وحولها بعض من التجار وأصحاب المهن من مبانٍ مؤقتة عشوائية التخطيط إلا فيما ندر منها ولم يكن في المدينة جامع، وأول جامع بمدينة الدمازين وضع حجر أساسه المقدم وقتها عثمان أحمد جلي الذي كان قائد الكتيبة وواصل بناء الجامع بعده العقيد وقتها عثمان إسماعيل سالم. لم يصاحب قيام الخزان بفخامة مشروعه أي خطة تنموية في المطنقة لا طرق ولا خدمات ولا ربط بين مدن وقرى الإقليم إلا ما كان يخدم الشركات المنفذة للمشروع وكانت الرصيرصالمدينة وما حولها ومدينة الدمازين التي لم يكن هناك طريق معبد يربط بينها ناهيك عن المدن أو القرى البعيدة مثل الكرمك وقيسان وغيرها كانت كل تلك المناطق تعيش في تخلف كامل ويحق للزائر أن يطلق عليها مسمى التهميش.. هكذا كانت جنوب النيل الأزرق في ذلك الزمن، وظلت كذلك إلى عهد قريب، فهل ولاية النيل الأزرق اليوم كما كانت عليه سابقاً؟ وهل ما تجده من اهتمام بالتنمية والخدمات من طرق وجسور ومشاريع زراعية وتعدينية واستثمارات أجنبية ومحلية في شتى المجالات، هل توفر ذلك لأي ولاية شمالية أو جنوبية في السنوات الخمس الماضية؟ هل يمكنك أن تتخيل كيف ستكون ولاية النيل الأزرق بعد سنين قليلة في ظل تلك الانطلاقة التنموية الكبيرة إذا توفر فيها الاستقرار والأمن؟ ليتك أخي القارئ شاهدت ولاية النيل الأزرق في السبعينيات والثمانينيات وتشاهدها اليوم لتكون حكمًا على التاريخ؟! أما ولاية جنوب كردفان التي كانت خاتمة خدمتي العسكرية الميدانية كقائد للفرقة الخامسة هجانة والتي كانت جنوب كردفان من مناطق مسؤولياتها وهي تعيش حالة تمرد لا يعرف قادته ماذا يريدون. عاشت جنوب كردفان خلال النصف الثاني من الثمانينيات وحتى نهاية التسعينيات وضعًا مأساويًا وحالة عدم أمن واستقرار وتوقفًا كاملاً لأي شكل من أشكال التنمية إلا في مناطق محدودة. أصبح الإنسان غير آمن على نفسه وماله وعرضه في حله وترحاله، فهجر الناس الأرض والريف والقرى، ومن بقي هناك كان ملاذه المدن الكبيرة، لم تعرف مدن الولاية وقراها الطرق المسفلتة والمعبدة ولا يجد إنسان الولاية ماء نظيفًا لشرابه ولا علاجًا لمرضه ولا رافعًا لجهله ولا تعليمًا لولده. وجدنا جنوب كردفان خلال منتصف التسعينيات تعيش حالة عدم استقرار وأمن وتخلف لا يمكن أن تتخيله أو تستطيع وصفه وأنت تتحدث عن منطقة هي بمثابة القلب لدولة تبحث عن وضعها بين الأمم.. وجدنا المواطن في الريف الجنوبي «البرام والريكة والتيس وتروجي» لم يسمع بالطبيب أنه يعالج، ولا بالمعلم أنه يدرِّس، ولا يجد الملح لطعامه ولا يعرف صغاره صبايا وصبيانًا أن الملابس لستر العورة. كان هذا هو حال أبناء جنوب كردفان الغرة أم خيراً جوه وبره الذين قُطع الاتصال بينهم وبين المدن التي حولهم بفعل المتمردين من أبنائهم. هكذا كانت جنوب كردفان وذلك كان حال إنسانها والذين فعلوا ذلك بها وبإنسانها من حرمان وبؤس كانوا يتجولون بين أرقى الفنادق ويجتمعون مع أفسق حثالة العالم يبيعون وطنهم بدراهم معدودات ويدبجون الشرائط والأفلام والروايات كذباً لينالوا عطف الدول والمنظمات من أجل العطايا والمال الحرام بحثاً عن السلطة الزائلة وقد كُبِّلوا بأجندة ثمناً لما نالوا وكسبوا وظلوا على ذلك الحال حتى يومنا هذا. كنا على حال جنوب كردفان شهودًا وكنا على إنسانها الذي استطعنا الوصول إليه أكثر رأفة به وعوناً له من قادته الذين يتاجرون بقضيته ولا يزالون يفعلون. جاءت اتفاقية نيفاشا وبالرغم من عيوبها وأخطائها بدأ يتغير حال جنوب كردفان، وبدأت التنمية تتنظم كل مرافقها وخدماتها وبنياتها التحتية وبدأت إانطلاقتها الكبرى خيراً شاملاً ومستقبلاً واعدًا واستقرارًا وسلامًا يحلم به كل مواطن.. كان المواطن في التسعينيات لا يستطيع أن يسافر بين المدن إلا تحت الحراسة ولا يخرج من بيته ليلاً وهو آمن ولا يعرف معنى الحياة التي يعرفها الناس، فشتان بين الأمس واليوم وبين حال وحال.. فهل من العقل أن يرجع الناس مرة أخرى إلى سني التيه والظلام والتخلف والمرض وكل ذلك بسبب رغبة طائش يسعى للوصول إلى الحكم؟ ماذا يريد هؤلاء الزعماء والساسة أهل النفاق والكذب، ومتى يتعلمون من دروس الماضي؟ ومتى كانت البندقية هي السبيل للوصول للهدف؟ أليس بين هؤلاء وأولئك من هو عاقل وحكيم؟ المواطن في جنوب كردفان والنيل الأزرق عانى من ويلات الحرب ما لم يعانه قادته وساسته وزعماؤه ولاشك أنه تعلم من دروس الماضي الكثير وهو الذي عليه حسم الأمور اليوم والبحث عن مصالحه فلا خير في قادة وزعماء لا حديث يصدر منهم إلا بلغة الحرب والتهديد.