* هلاّ سألت الخيل يا ابنة مالكٍ.. إلخ إلخ إلخ .. * قالها عنترة وهو يجلس القرفصاء، على ظل حائط متهدم، قالها دون أن تُكلِّفهُ قطرة عرق واحدة، فصفّقَ لهُ العرب من الخليج إلى المحيط، وهتفوا باسمه، وجعلوا صورتهُ تحتل أغلفة المجلات وشاشات الفضائيّات.. لم يُناقشهُ أحد حول مدى صحّة الوقائع التي رواها في معلقته، بل رأى في عيون الجميع وابتساماتهم تشجيعاً وإغراءً بقول أقصى ما يستطيع قوله، وأغرب ما يبلغهُ خيالهُ!! * بُهِتَ عنترة.. ألجمتهُ الدهشة قبل أن يُبدِعَ معلقتهُ الثانية.. تذكَرَ أنّهُ ظلّ يفعل بسيفه ورمحه، بل وبأظافره وأسنانه، أفعالاً يشيب لها الولدان، فلم تُسمِعهُ العرب كلمة استحسان واحدة، ولم تٌفرِد لهُ الصحف العربيّة إلاّ عناوين باهتة في «صفحة الحوادث»، من قَبِيل :«إرهابي يقتُلُ مستوطناً يهودياً» ..أو «عربي مخمور يُطلق النار على نادلة يهوديّة!!» .. فهم عنترة الآن لماذا خلق الله للعرب آذاناً كبيرة!! * عرف عنترة الآن طريق باب المجد، وليذهب السيف والرمح، بل لتذهب الخيل والليل والبيداء إلى الجحيم! المهم هو القول، قول الفرسان لا فعلهم. فليملأ الدنيا، إذاً، وليشغل الناس.. ولتصفِّق العرب وتهتف باسمه. * كان عنترة، كعادته الجديدة، يُرسِلُ القُبلات، على الهواء، إلى المعجبات، ويُحيّي المعجبين، من على المسرح، مُلقِياً معلّقَتَهُ الثانية، التي سوف تتبعها معلّقات، كان يُرغي ويُزبِدُ و يثور، عندما صعد يهودي إلى المسرح، وسدّدَ إلى وجه عنترة صفعة مُدَوِّية.. فار الدم في عروق عنترة، وتحسّسَ سيفهُ.. ولكنّهُ تذَكَّرَ أنّ قتل يهودي مغمور لن يُورِثَهُ مجداً، في ظل «النظام العربي الجديد» ، فالقتل ليس بالفعل الاستثنائي ولا الخالد.. تستطيع «طوبة» أن تقتُل!! ولكنها لن تستطيع أن تُنشيء قصيدة عظيمة.. تستطيع بعوضة تافهة أن تبُثَّ طُفيل الملاريا في عروق هذا اليهودي الوقح، فتقتُلَهُ، ولكنها لن تستطيع أن تهجوهُ بقصيدة عبقريّة!! * قطع عنترة معلّقَتَهُ، وأنشأ من فوره قصيدة رائعة، في هجاء اليهودي.. وصف وقاحة اليهودي، وصعوده إلى المسرح، وسلوكه غير«الحضاري»، وصفعتَهُ «اللا إنسانيّة» .. فصفّق له الخليج والمحيط وما بينهما، وأصبح اليهودي «مثل السمسمة».. تأكّد عنترة من قوّة مفعول قصيدته عندما تبسّم اليهودي، ابتسامة خَجلَى، وتقدّم إليه بلكمة صاعقة، فجَّرَت الدَّمَ من أنف عنترة، وأشهدتهُ عدداً من النجوم، وملأت صدرهُ غضباً، فاستلَّ سيفهُ على الفور... * ولكن هتاف الجماهير العربيّة وتصفيقها، ذكّرَهُ أنّ السيف لم يعُد طريقاً إلى المجد.. الأفضل إذاً أن يُعيد السيف إلى غِمدِ، وأن يصُبَّ في آذان هذه الجماهير المتحرِّقة إلى الجديد، وصفاً لما كان يُريد أن يفعلهُ بالسيف في عنق هذا اليهودي الجبان.. رُبَّما اضطُرَّ عنترة في نهاية الأمر إلى قتل اليهودي، ولكن ليس قبل أن يُدهِش هذه الجماهير بِشِعرٍ خالد.. * تألّقَ عنترة، وهو يُغالب الدوار الذي سبّبتهُ لكمة اليهودي، في وصف الطريقة التي سوف يقتُل بها هذا النكرة.. أبحر في أعماق القواميس واستأنس وحشي المعاني والمفردات، فدوّت الأرض العربيّة تصفيقاً لاهباً.. وامتلأت عينا عنترة بالدموع، انفعالاً. * ومن بين سمادير الدموع في عينيه، أبصر عنترة غريمهُ اليهودي الغاضب، يستلَّ سكّيناً طويلة النصل، ثم يتقدّم ويغرسها في صدر عنترة.. * أحسّ عنترة أنّ عليه الآن أن يفعل شيئاً مغايراً.. مدَّ أصابعهُ بحثاً عن مقبض سيفه..ولكن يدهُ لم تقو على الإمساك بالسيف، بعد أن هجرها الدم الذي تدفّق فغطّى أرض المسرح.. ولكن عنترة كان أذكى من أن يدع ما تبقّى فيه من قوّة يذهب هدراً.. زحف حتّى حاذت شفتاهُ «المايك»الواقع على الأرض، وألقى آخر وأروع قصيدة عربيّة.. أبدع فيها، في وصف وقائع اغتياله.. * قال الأطبّاء أنّ عنترة قد مات «إكلينيكيّاً»، ولكنّ دماغه ما زال يعمل، ويتذكّر.. غداً نتجوَّلُ في ذاكرة عنترة العربي.