جعفر باعو" حينما كلفني رئيس التحرير بمرافقة سفارة دولة إثيوبيا لزيارة سد النهضة «براً» لم أتردد لحظة واحدة في قبول التكليف، لسببين اولهما باعتبار ان هذا الوفد هو الأول عربياً وإفريقيا الذي يزور سد الالفية، وثانياً ان الرحلة كانت عبر الطريق البري، وهذا ما يتيح لنا مشاهدة العديد من المدن والمناظر الاثيوبية الجميلة، خاصة أن برفقتنا اصدقاء وزملاء خففوا كثيراً عنا مشقة الرحلة، ففي اليوم الاول من شهر رمضان المبارك هاتفني الاخ خالد ثابت مسؤول الاعلام بسفارة اثيوبيا وطلب مني احضار جواز السفر والاستعداد للسفر رابع ايام الشهر الفضيل، وفي ذاك اليوم حضرت لمباني السفارة في العاشرة صباحاً على وعد التحرك في الحادية عشرة صباحاً، ووجدت القاعة الكبرى لمباني السفارة مليئة بالزملاء الأعزاء من مختلف الصحف الى جانب مناديب الاذاعة والتلفزيون القومي وقناة الشروق، وحينما اعلن منادي الصلاة لاداء فريضة الظهر بدأ الملل يتسرب للجميع، خاصة ان الموعد المحدد للتحرك كان الحادية عشرة صباحا ولكن هذا لم يحدث.. أدينا صلاة الظهر داخل مباني السفارة وبدأنا بعدها اتصالاتنا بالاخ خالد ثابت لمعرفة سر هذا التأخير، وبعد تلك المهاتفات ظهر خالد معتذراً للتاخير لاسباب خارجة عن الارادة، وبعد حديثه ذاك بدقائق جاء السفير الاثيوبي أبادي زموا مودعاً الوفد الاعلامي بكلمات مؤثرة جلها تتحدث عن الصعوبات التى قد تواجه الوفد في طريقه للسد، وقال: يجب تجاوز كل العقبات حتى تصلوا الى هدفكم المنشود، ولم يخطر ببال اي واحد من اعضاء الوفد ان الصعوبات التى ستواجههم ستصل الى درجة وجود «خسائر» في الوفد وذلك بمرض احد اعضاء الوفد قبل اكمال الرحلة، ولهذه قصة سنسردها لاحقاً. الطريق إلى نغمتي حمدنا الله كثيرًا على أننا هربنا من مطب الشفته بعد خروجنا من سد النهضة، وبدأ الباص مسرعاً في سباق مع الزمن حتى يدركنا الإفطار ونحن جلوس على كراسينا ننتظر موعد أذان المغرب إلا أن إطار الباص رفض ذلك فأعلن تمرده علينا لنتوقف في إحدى القرى البسيطة، أخذنا بعض اللقطات في تلك القرية وبدأ كل واحد منا يفكر في اتجاه القبلة لأداء صلاة الظهر ولم نتعرف اليها الا بواسطة احد رجال تلك القرية وهو من المسلمين فقدم لنا الدعوة لاداء الصلاة في منزله المتواضع، فقبلنا وذهبنا معه، لم يكن منزله بعيدا عن المكان الذي تعطل فيه الباص فاسرع الرجل في تجهيز الماء والفرشة لاداء الصلاة، منزل بسيط يقلب عليه الطابع الخليجي في جلسته وبه بعض الاواني البسيطة متروكة على جنبات المنزل، ادينا الصلاة ولم يكن سائق الباص قد انتهى بعد من اصلاح اطار عربته، وبعد ان اضعنا الكثير من الزمن في التعرف على ملامح تلك القرية نادى مندوب وزارة السدود بسرعة التحرك بعد ان نجحوا في اصلاح اطار السيارة. أجواء خريفية وإفطار في الطريق تحرك بنا الباص ونحن نفكر في مدينة نغمتي التي سنقيم بها قبل الوصول الى اديس ابابا، ومر الزمن كطيف سريع لم نشعر به مع روعة الاجواء الممطرة وكالعادة (حللنا) صيامنا من داخل الباص وبدأ كل واحد منا مسترخي يفكر ويتأمل في ذاك الجمال الرباني ولم نفق من ذاك الشرود الا بصوت مندوب الوزارة وهو ينبهنا الى وصولنا الى نغمتي، نظرنا من خلال الزجاج الامامي للبص فلم نرَ إلا شعاع أنوار خافته تلوح من الأفق وبعد أقل من الربع ساعة وصلنا إلى نغمتي تلك المدينة الرائعة بأهلها وأجوائها. استقبال مدهش عند أول مدينة نغمتي وهي من أهم مدن الاروموا وجدنا حاكم المنطقة ومعه الكثير من اهلها الذي يرتدون الجلابات والعباة التي تشبه السودانية كثيراً، وجوههم مشرقة ونيرة، بعد الاستقبال قدموا لنا الافطار الذي كان مميزاً وهم يتحدثون باللغة العربية الفصحى واكثروا من عبارات (تريدون المزيد) يجب ان تاكلوا جيدا.. انه طعم لذيذ، وغيرها من عبارات الكرم الفياض، وبعد الافطار جلسنا الى الشيخ سعيد وهو امير الدعوة الذي قال انهم يتعايشون بصورة جيدة مع المسيحيين ويتفقون على السلام واضاف الشيخ سعيد ان جل الناس يعملون بالزراعة وقال نحن انتظرناكم كثيراً واستبشرنا بكم كثيرا ونحبكم واوضح انه زار السودان والعديد من المناطق منها جبل اولياء وامدرمان واوضح انه سيعود للسودان قريبا جداً، وبعد ذاك الافطار توجهنا للفندق للاستراحة من مشوار طويل ومرهق ولم نستطع حتى من تناول وجبتي العشاء والسحور من الارهاق ولم نستيقظ الا بزخات المطار وحبيباته التي داعب زجاج نافذة الفندق. الطريق إلى أديس أبابا بعد أن انتصف نهار اليوم الثاني بدأ الباص في التحرك نحو اديس ابابا وكنا نمني النفس ان نتناول افطارنا في الفندق المخصص لاستقبالنا في العاصمة الاثيوبية الا ان امانينا تلك لم تتحقق فادركنا الافطار قبل الوصول الى اديس ابابا وبعد الوصول ايضاً توجهنا لغرفنا للراحة، وفي العاصمة اقتصر برنامجنا على زيارة بعض المشاريع التنموية التي تشير الى ان هناك دولة قوية ستنهض للقمة قريباً جداً فمشروع مترو الانفاق شارف على الانتهاء ومشاريع السكن الشعبي ايضا عانقت السماء وفي الصناعة ذهبت اثيوبيا بعيدا وكذلك في الاستثمار والتجارة وكثير من المجالات تفوقت فيها بلاد الحبشة، ووقفنا على العديد من المشاريع الضخمة ثم التقينا وزير الموارد والطاقة الامابو ديجاموا الذي افصح لنا عن الكثير من السدود والمشاريع التي ستجعل من اثيوبيا من دول المقدمة وبدد الوزير المخاوف التي تبديها بعض الدول بان قيام السد سيحدث كوارث لدول الحوض والمنطقة خاصة السودان ومصر لانه يخلف الفيضانات ويقلل حصتها من مياه النيل بعد بدء التخزين لملء بحيرة السد وقال ان سد الالفية له الكثير من الفوائد على السودان ومصر منها تقليل حدوث الفيضانات مما يحمي المزارعين من الخسائر الفادحة جراء هذه الفيضانات موضحا ان المشروع تم بدراسات عالمية وعلمية دقيقة من قبل بيوتات خبر متخصصة في مجال بناء السدود روعي فيها كافة الجوانب الايجابه والسلبية، موضحاً ان حكومته تشعر بالمسؤولية تجاه شعبها وشعوب المنطقة وان مايقومون به يهدف لخدمتهم وليس الاضرار بهم مبينا انه تم وضع كافة التدابير الاحترازية لمواجهة الاثار السالبة الناتجة من قيام السد وانتقد الامابو الحملات التي تقوم بها بعض الوسائط الاعلامية بان سد الالفية سيضر بالسودان ومصرقاطعاً بان ملء البحيرة يتم على مراحل امسك عن تحديد توقيتها وسخر الامابو من الحديث عن انهيار السد واعتبر ذلك اشاعات مغرضة مؤكدًا ان سد النهضة من افضل السدود في العالم من حيث التصميم نافياً بشدة وجود اي خلافات مع البنك الدولي بشان التمويل، وبعد ذاك اللقاء وجدنا اديس بشكلها الاخر حيث الفن الاثيوبي الرائع من خلال ثلاث حفلات اولها اقامته وزارة الري للوفد والاخر بدعوة من مدير شركة النيل للبترول الذي دعا الوفد لتناول وجبة العشاء بالمطعم اللبناني وتخلل ذلك حفل رائع ادهشنا بجماله والثالث كان بدعوة من الثقافة والاعلام ولكن من اجمل الدعوات للوفد كانت دعوة السفارة السودانية حيث تناولنا الافطار بالمطعم السوداني واعتقد ان ذاك الافطار كان الاروع لجميع اعضاء الوفد حيث استمتعنا بالقراصة والعصيدة والحلومر بعد غياب طويل، وما فتح شهيتنا للافطار في ذاك اليوم هو بشاشة مدير المطعم عبد الله وروعة حالي مساعد الملحق الاعلامي بالسفارة، لنودع اديس في اجمل الليالي ونبدأ رحلة التحرك للخرطوم مروراً ببحر دار وقندر. بحر دار الروعة والجمال الاستقبال في هذه المدينة كان مختلفاً هذه المرة فكل شيء ادهشنا وكل يوم تزداد دهشتنا بروعة هذه المدينة، وفي صبيحة اليوم الثاني من وصولنا الى بحر دار لبينا دعوة لحضور افتتاح مجمع قاعات مؤتمرات خصصت فيه قاعة باسم السودان، وبعد ذاك الافتتاح زرنا منبع النيل الازرق بحيرة تانا تلك البحيرة التي قرأنا كثيراً عنها في كتب الجغرافية في ازمان سابقة والدهشة الكبرى لم تكن في البحيرة وانما في تلك الجزيرة التي تتوسط البحيرة ويقطنها رهبان انقطعت علاقتهم بالحياة فتفرغوا للعبادة فقط ومن الاشياء الغريبة في تلك الجزيرة منعهم للنساء من الدخول الى تلك الجزيرة في اعتقاد منهم بان دخول النساء قد يسبب كارثة لايحمد عقباها، ودعنا بحر دار بعد ان غسلت عنا كل أرق وإرهاق الرحلة، اذاقتنا بحر دار حلاوة اثيوبيا بعد تجرعنا مرارة المشوار الذي حوى عدد من الخسائر في مقدمتها مرض الزميلة بوكالة السودان للأنباء معزة وعودتها بعد عدة ايام فقط من بداية الرحلة، معزة عانت كثيرا من طول الطريق ووعورته فكانت صديقة لاطباء إثيوبيا الى حين عودتها للخرطوم عبر الطيران، ومن الخسائر الخفيفة في هذه الرحلة اصابة الزميلة بالاهرام اليوم فاطمة رابح في رجلها اليمني ولكنها تحاملت على تلك الاصابة واكملت المشوار بكل شجاعة، أما الزميلتان العزيزتان بالسوداني والخرطوم هبة عبد العظيم ونضال عجيب فقد اثبتا صلابة لا مثيل لها في السفر وقلت للزميلات اللاتي رافقنني في هذه الرحلة بعد هذه الرحلة بامكانكن السفر الى اي منطقة في السودان دون خوف عليكن. قندر التاريخ المعتق ختمنا رحلة الصعاب هذه بزيارة مدينة قندر وهي من اقرب المدن للقضارف وتوجد بهذه المدينة اقدم قلعة حيث كان ملوك الحبشة منها وتعرفنا على التاريخ الطويل لقندر واثيوبيا بصفة عامة ثم قمنا بجولة سياحية على بعض المناطق السياحية الرائعة في المدينة وحضرنا افتتاح احد افخم واكبر الفنادق في المدينة والتقينا في هذا الفندق باحد الفنانيين التشكيليين والذي أبدى إعجاباً كبيراً بالفن السوداني وذكر لنا بعض الفنانيين التشكيليين وقال انه سيزور السودان قريباً، ثم ختمنا زيارتنا بحفل رائع أقامه حاكم المنطقة للوفد تخللته بعض الرقصات الشعبية الرائعة، لنودع بعدها قندر واثيوبيا في رحلة ستبقى في الذاكرة كما أنها رحلة تاريخية ستذكرها الأجيال.