{ أزمة ثقة بدرجة قصوى من الحدّة بين حكومة دولة جنوب السودان والحركات المتمردة ضدها، وهذا ما جعل بعد اختبار حكومة الحركة الشعبية هناك وفشلها في الاختبار المفاوضات أمراً لا يقود إلى حل المشكلة الأمنية والسياسية القائمة منذ إعلان نتائج الانتخابات هناك، وهي أصلاً لم تكن انتخابات لممارسة عملية ديمقراطية، كما تؤكد هذا الطبيعة السياسية للحركة الشعبية، وإنما كانت فقرة في جدول سياسي سطرته اتفاقية نيفاشا من باب استكمال عملية سياسية معينة وضعت صياغتها جهات أجنبية. وبعد عمليات غدر من قبل الحركة الشعبية ببعض من استجابوا للتفاوض معها، أصبح خيار المفاوضات لدى قادة الحركات المتمردة هناك ذا تكلفة عالية جداً بالنسبة لحكومة الجنوب، وقال الفريق جورج أطور أحد قادة حركات التمرد في دولة الجنوب في مؤتمر صحفي عقده أخيراً بنيروبي: «إن المشكلة مع الحركة الشعبية هي عدم وجود ضمانات لعناصرنا ليعاملوا على قدم المساواة مع رصفائهم، وألا يهاجموا مناطقنا ومعسكراتنا بعد التوصل لاتفاق». جورج أطور يشعر بفقدان الثقة، وهو يتذكر الغش والخداع والغدر الذي تعرض له أحد قادة الحركات المتمردة هناك العميد قلواك قاي، إضافة إلى قبريال الذي هو الآخر أيضاً ساقته خدعة المفاوضات إلى مصير قلواك قاي، أما القائد قديت فكان مصيره الأفضل حيث أنه أودع السجن، لكن بعد السجن لا يعلم أحد هل سيخرج منه مقتولاً أم حيَّاً؟ كل هذا جعل قادة التمرد في الجنوب يتعاملون مع خيار المفاوضات للوصول لتسوية بينهم وحكومة جوبا باعتباره شيئاً تكتيكياً الهدف من ورائه استئناف سلوك الحركة القديم أيام التمرد ضد خصومها حينما كان يقودها جون قرنق. جورج أطور أعلن في مؤتمره الصحفي بنيروبي انهيار المفاوضات بين حركته «الحركة الديمقراطية لجنوب السودان» وحكومة دولة جنوب السودان. وكان انهيارها متوقعاً لأن حكومة جوبا لا يسعها أن تقبل بشروط تراها قاسية رغم أنها لم تكن أقسى من شروط الحركة الشعبية عام 2002م لحكومة السودان. فما احتملته حكومة الخرطوم لم تستطع حكومة جوبا الآن احتمال ما هو أهون منه، وهذا الفرق المهم ينبغي أن يجعل حكومة جوبا ترعى علاقة جوار جديدة مع الخرطوم مكافأة لها، بدلاً من أن تدعم ضدها تمرد الحلو وعقار في جنوب كردفان والنيل الأزرق، وتتلخص مطالب جورج أطور في أن يكون بين حركته وبين حكومة جوبا وسيط دولي لضمان تنفيذ أية اتفاقية بين الطرفين، والمشاركة في الحكومة الحالية، وإقامة انتخابات بعد عام من توقيع الاتفاق، واستيعاب قواته في الجيش الشعبي والشرطة، ورصد ميزانية للتعويضات والإعمار، وإطلاق سراح أسرى الحرب والمعتقلين. كل هذه الشروط تجعل أطور يضع السلاح، وربما يرفعه ضد من يستمرون في قتال الحركة الشعبية. لكن الأخيرة سفهت مطالبه هذه. أما قائد جيش تحرير الجنوب الفريق جيمس قاي، فقد أصبح موقفه الميداني كما يبدو أقوى من موقف أطور، وهو يطالب للتفاوض بتنحية سلفا كير وإلا سيحارب إلى أن يدخل جوبا، وهذا شرط قاسٍ جداً، ويعني أن ابن قبيلة النوير جيمس قاي يريد إقامة نظام قومي لا تستأثر فيه قبيلة بالسلطة دون غيرها، وهو يقول إن تسعة من فرق الجيش الشعبي العشر تحت قيادة أبناء الدينكا، وإن فرقة عقار بالنيل الأزرق تحت قائد من الدينكا.. إذن الخيار سيِّد الموقف في الجنوب هو خيار «التغيير» وليس التفاوض. اعتصام المناصير قضية المناصير أصحاب «الخيار المحلي» وهو خيار بعض أبناء المناصير للبقاء حول بحيرة سد مروي، هذه القضية قد انتقلت من كونها كلية إلى جزئية، بعد أن وافق رئيس الجمهورية عمر البشير على مقترحات قدمها له أصحاب «الخيار المحلي»، وتبقى بعد الموافقة الرئاسية تنفيذها لتجاوز مشكلة مهمة ظل يعانيها الناصير في أكثر من ناحية، فهم ينتظرون من أهل الاختصاص تنفيذها لتنمية المنطقة وإنعاش خدماتها واستيفاء تعويضات أهلها المالية، بعد أن فقدوا بعض الممتلكات والزرع بسبب إقامة المشروع القومي «سد مروي» إذن القضية انتقلت من مرحلة المطالبة بالموافقة على المقترحات إلى مرحلة أن تنفذها الجهة المعنية، وهي الحكومة الاتحادية المسؤولة عن التعويضات، وحكومة ولاية نهر النيل المسؤولة عن الخدمات. وبعد دخول مواطني منطقة المناصير أصحاب الخيار المحلي في اعتصام سلمى أمام مبنى حكومة ولاية نهر النيل بالدامر وتهديدهم بأن ينقلوا حالة الاعتصام إلى الخرطوم، تجاوب معهم والي نهر النيل الفريق الهادي عبد الله، حيث قال إن حكومة ولايته معنية فقط بتقديم الخدمات للمنطقة، وإن التعويضات مسؤولية الحكومة الاتحادية في الخرطوم. لكن السؤال متى ستقوم حكومة الدامر بما يعنيها في منطقة المناصير حتى تقلل من حدة الأمر؟! إن الموافقة على مقترحات المناصير تسد الطريق بالضرورة أمام مناقشة أيٍ منها، ولذلك يكون الأفضل أن تبدأ حكومة الدامر بتنفيذ مشروع الخدمات للمنطقة بإعانة من الحكومة الاتحادية، ليبقى بعد ذلك موضوع التعويضات المسؤولة عنه الحكومة الاتحادية كما قال السيد الوالي. لكن السؤال الذي مازال بلا إجابة واضحة وفتح الباب للتكهنات، هو لماذا سارع رئيس الجمهورية بالموافقة على مطالب أبناء المناصير أصحاب الخيار المحلي ولم تسارع الجهة المعنية بتنفيذ قرار الرئيس؟! هل كان الرئيس يعني بالموافقة مدلول المقولة السودانية القائلة: «تستاهلوا الذبيحة لكن البهائم سارحة»؟! إن البهائم لا بد أن تعود، لكن تأخيرها قد يتسبب في كارثة، والنار من مستصغر الشرر، وقد صدر عن لجنة المتأثرين من قبل بيان صحفي وتظاهر شباب المناصير أمام باب صحيفة «الإنتباهة» ربما لسوء فهم ما ورد في بعض صفحاتها، وها هي مرحلة الاعتصام أمام حكومة الدامر، وقد ينتقل هذا الاعتصام إلى بوابة مجلس الوزراء أو القصر الجمهوري بشارع الجامعة بالخرطوم. فقد صرفت الحكومة أموالاً طائلة في سلام لم تجده، بل إن الأموال تحولت إلى دعم تمردات جديدة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق. فلماذا لا تُضخ الأموال لخدمات منطقة المناصير؟ وتعويضات أهلها المستحقة ليست تعويضات حروب حولها جدال ونقاش، بل تعويضات عن خسائر منظورة سببها قيام المشروع القومي العظيم سد مروي. إننا نتحدث عن لعنة النفط، وأرجو ألا يتحدث أحد المناصير عن لعنة السد، بعد أن هتف البعض يوماً ضد أوكامبو «الرد الرد.. السد السد»، كان بعد تهجير أهالي حلفا كتاب «الخطيئة والقربان» ونخشى تكراره من قبل المناصير. نلتقي يوم الخميس بإذن الله