الأزمة الأوكرانية التي لا يريد الغرب حلها حتى بمجرد محاولة غير جادة، تتفاقم على الشعب الأوكراني بل وتفاقم الأمور التي قد تنتقل للدول المجاورة.. والأمر الذي يجب على المجموعة الأوروبية هو حل الأزمة في الداخل الأوكراني، ولكنهم غير منشغلين بما يدور في داخل أوكرانيا، بل بفرض العقوبات على روسيا التي لم تكن سبباً في نشوب الأزمة. كما أن العقوبات التي تفرضها أمريكا والمجموعة الأوروبية يمكن أن تقابلها عقوبات روسية توازي ذات الأضرار التي يمكن أن تحدث في روسيا، فروسيا ليست دولة أفريقية صغيرة يمكن تركيعها بالعقوبات. وكشف الحسابات الاقتصادية لأضرار العقوبات قد تنعكس سلباً على أوروبا بأكثر مما تنعكس على روسيا، بل على العكس فإن العقوبات ستكون بمثابة حافز للتصنيع والزراعة في روسيا، وحجم التبادل التجاري بين روسيا والاتحاد الأوروبي يعادل مليار دولار يومياً، وهذا يعني أن المصانع الأوروبية سيحدث فيها نوع من الشلل الاقتصادي الأمر الذي سيزيد من أرقام البطالة في الدول الأوروبية وحجم التعاون الاقتصادي الروسي مع أمريكا إذ تقول الأرقام أن حجم التبادل التجاري مع روسيا يعادل اثني عشر ضعف التعاون الروسي الأمريكي. وبلغة الأرقام نقول إن روسيا هي الأقل خسارة في هذه العقوبات، وإن أوروبا هي الخاسر الأكبر ويمكن إثبات ذلك بالأرقام. من ألمانيا يوجد ستة آلاف مستثمر يمتلكون شركات في روسيا فهل ستفرض ألمانيا عقوبات تطول اقتصادها؟ حجم الصادرات الروسية إلى المجموعة الأوروبية يمثل سبعة في المائة من الناتج القومي الأوروبي، أما حجم الصادرات الأوروبية لروسيا فيمثل أربعة عشر في المائة من الناتج القومي الأوروبي. وهنا يبرز سؤال: فإذا كانت أوروبا قد وجدت سوقاً رائجاً في روسيا فأين يمكن أن تجد التعويض في سوق عالمي تم غمره بالمنتجات الصينية والتي يتقبلها المشتري في الأسواق العالمية وهي أقل سعراً من المنتجات الأوروبية؟ كما أن أسواق الهند والصين والبرازيل وجنوب إفريقيا وهم يمثلون مع روسيا مجموعة بريكس خاصة وأن التعامل بين هذه الدول يتم بعملاتها المحلية عوضاً عن الدولار، الأمر الذي يمثل خطورة اقتصادية على كل من الدولار والعملة الأوروبية التي بدأت بالفعل في الترنح، ثم أن هذه الأسواق تمثل أكثر من نصف سكان العالم، الأمر الذي سينعش اقتصاديات تلك المجموعة. الاستثمارات الروسية في اليونان تمثل نسبة ستة وأربعين في المائة من جملة الاستثمارات في ذلك البلد الأوروبي، وهذا يعني انهيار الاقتصاد اليوناني الأمر الذي يثير الفزع في أوروبا، وقد يدعو هذا الإجراء إلى مسارعة اليونان للخروج من منطقة اليورو وهذا آخر ما تتمناه المجموعة الأوروبية، وخروج اليونان من منطقة اليورو يعني انهيار اليورو الذي بدأ في الترنح بعد إعلان العقوبات على روسيا. كما أن حجم استثمارات اليونان في روسيا يعادل واحد وعشرين في المائة، أي أن اليونان ستعاني من خسارة مزدوجة، فهل يا تُرى ستسير اليونان نحو المقبرة برجليها، هذا الأمر يبعث الشك في موافقة اليونان إذ أنها ستكون المتضرر الأكبر من هذه العقوبات. وفي غمرة هذه الضجة الأمريكية استولت أمريكا على سبعمائة طن ذهب من احتياطي ألمانيا في أمريكا ولم تستطع ألمانيا استردادها، وقد حدث هذا أثناء الحرب العالمية الثانية حيث خرجت أمريكا من هذه الحرب غنيها الأوحد، فقد كانت تبيع الأسلحة والمواد الغذائية مقابل الذهب الأوروبي، وكانت السفن تفرغ البضائع وتشحن الذهب عائدة به إلى أمريكا، وحين نفذ الذهب من أوروبا قايضوا البضائع والأسلحة باللوحات الفنية التي لا تقدر بثمن من المتاحف الأوروبية، هذا إلى جانب النفائس التي كانت تحتفظ بها الدول الأوروبية. وفي مجال الزراعة سيفقد المزارع البولندي مليار دولار سنوياً من تجارة التفاح فقط، وهذه الأموال ستذهب للمزارع الروسي، وكذلك الأمر بالنسبة للمزارع الجورجي الذي سيفقد حوالي مليارين ونصف سنوياً بوقف صادرات الخضر والفواكه لروسيا، أما ملدوڤيا فإن ضريبة على صادراتها من النبيذ ستفرض الأمر الذي يجعل تلك الصادرات غير منافسة في السوق الروسي. وفي مجال السياحة ستفقد السياحة الأوروبية سائحاً روسياً تقول الإحصائيات أنه السائح الأكثر صرفاً، حيث يصرف السائح الروسي مبلغ مائة وخمسين يورو يومياً بينما يصرف السائح الأوروبي مبلغ مائة وخمسة يورو فقط، وهذا يعني أن ميزان السياحة الأوروبية سيصاب بخلل كبير وكساد لا يستطيع تحمله. والسائح الروسي سيجد في منتجعات القرم الذي انضم إلى روسيا ملاذاً للراحة والاستجمام بأكثر مما يجد في أي مكان آخر وبأسعار تقل كثيراً عن أوروبا. ولنضرب مثلاً عملياً للسياحة الروسية حيث يزور فنلندا وحدها مليون سائح روسي في العام ويدفع السائح الروسي مبلغ ستين يورو رسوم استخراج الفيزا وهذا يعني أن رسوم الفيزا فقط تعادل سنوياً ستين مليون يورو هذا عدا ما يصرفه السائح الروسي يومياً وهو مقدر بمائة وخمسين يورو يومياً ولنحسب ما تخسره فنلنده من السياحة فقط، مليون سائح روسي يصرفون يومياً مائة وخمسين مليون يورو. ٭ إيقاف استخدام السيارات الأوروبية في كل الوزارات والمؤسسات الحكومية الروسية الأمر الذي يشجع صانع السيارات الروسي لتطوير صناعة السيارات الروسية حتى تستطيع المنافسة عالمياً. أما الضربة القاسية التي تلقتها شركات الطيران الأوروبية والتي تمثلت في منع الأجواء الروسية عنها، وأغلب الطائرات التي تطير إلى آسيا فإن أقصر الطرق إليها تمر عبر سيبيريا إلى اليابان والصين وحتى إلى ماليزيا بدليل أن الطائرة الماليزية التي تم إسقاطها بواسطة الصواريخ الأوكرانية تمر عبر الأجواء الروسية. وقفل الأجواء الروسية على الطيران الغربي يعني إضافة أربع ساعات طيران، الأمر الذي يضاعف من صرف الوقود ويجبر الطائرات على الهبوط عدة مرات للتزود بالوقود، وقد سافرت من روما إلى موسكو على طيران جال الياباني وعند سؤالي عن خط سير الطائرة كانت الإجابة روما، موسكو، طشقند، طوكيو والمسافة بين طشقند وطوكيو تقطعها الطائرة دون توقف رغم أنها أكثر من تسع ساعات طيران، وزيادة الطيران أربع ساعات بسبب منع الأجواء الروسية يزيد من التكلفة كثيراً الأمر الذي يشكل عبئاً على شركات الطيران والمسافرين. خلاصة القول إن الاقتصاد الروسي لن ينهار بسبب هذه العقوبات، فروسيا تملك عاملاً أساسياً تفتقده أوروبا وهو البنية الأساسية للإنسان الروسي، فقد جبلت على تحمل الصعاب وهذا ما يفتقده الأوروبيون، والإنسان الذي يخوض الحرب وهو جائع حري به أن يتجاوز عقوبات تحرمه من بعض كماليات الحياة. فروسيا تجاوزت ما هو أقسى من العقوبات التي ستدفعها إلى البدائل التي من صنعها وتقدم لشعبها البديل الروسي الأمثل.