جاء في الأنباء أن الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل بدأ في الاستعداد لخوض الانتخابات القادمة، وكون لجنة برئاسة حاتم السر، ومن حيث المبدأ لا توجد مشكلة في مشاركة الحزب في الانتخابات لو كان هذا القرار ناتجاً عن قرار جمعي في الحزب يعبر عن القواعد، بيد أن الحزب الاتحادي العريق الذي عصفت به الانشقاقات في هذه الحقبة، وشكل زعيمه محمد عثمان الميرغني غياباً مستمراً خارج أسوار الوطن، لم يعد قادراً على التقاط أنفاسه ولعب دور سياسي يتناسب مع عراقته السياسية التي تشكلت منذ بواكير الحركة الوطنية، وكان الميرغني قد عاد إلى البلاد في الخامس من نوفمبر 2008، والتي لم يكن مخططاً لها، إذ أنها كانت بسبب مرافقته لجثمان شقيقه أحمد الميرغني الذي توفي فجأة في مصر، فقد غطت سحابة الأحزان الداكنة وهيبة الحدث على كرنفال الاتحاديين الحاشد الذي كان الاتحاديون ينوون عبره استقبال زعيمهم محمد عثمان الميرغني، وقبل أن يحط الزعيم الاتحادي الكبير في مطار الخرطوم تواترت تصريحات اتحادية أشارت إلى أن الميرغني سيمكث زهاء الأسبوع ومن ثم يعود إلى القاهرة لترتيب العودة النهائية للوطن، بيد أن العديد من المراقبين وقتها كانوا يرجحون أن الميرغني لن يبارح الخرطوم قريباً بعد ذلك الغياب الطويل، إذ أن للميرغني ملفات عديدة بعضها يخص الحزب وأخرى تتعلق بأملاكه المصادرة حيث ظلت معلقة منذ صعود حكومة الإنقاذ سدة الحكم في الثلاثين من يونيو 1989، خاصة والميرغني يدرك أن التفاوض حولها لم يكن مثمراً عندما كان بعيداً عن أسوار الوطن، فالإنقاذ كانت حريصة على عودة المعارضة المؤثرة إلى البلاد لاعتبارات سياسية وأمنية، وهكذا توافرت الظروف البيئية الملائمة للطرفين للتفاوض، سيما والميرغني قبل حضوره من القاهرة بعد غيابه الطويل ثمانية عشر عاماً، كان قد عقد اتفاقية جيبوتي مع الحكومة في العام 1999م، ثم اتفاقية القاهرة في عام 2005م مع التجمع الوطني الذي يرأسه الميرغني، وجميعها لم تلب أشواق الاتحاديين في العمل السياسي بعد حرمانهم من سلطة كانوا فيها الوصيف المؤثر إبان الحكومة التعددية التي جاءت بصناديق الاقتراع بعد انتفاضة أبريل عام 1986، حيث أسفرت اتفاقية القاهرة بدخول عناصر محدودة في الحزب إلى هياكل السلطة باسم التجمع وليس بوصفهم اتحاديين، وهو ما كانت قيادة الحزب دائمة التذكير به باعتبار أن الحزب لم يحسم أمر مشاركته في النظام بعد، وأن ذلك رهين بإحداث تحولات مؤسسية في السلطة تتيح للحزب المشاركة وفق وزنه السياسي، لكن ذلك لم يحدث بالرغم من أن المفاوضات بين الجانبين لم تنقطع، لكن يبدو أن الحزب رأى أن المشاركة في الانتخابات الماضية ربما تفضي إلى وضع سياسي مقدر للحزب أو على الأقل تفضي إلى تفاهمات مع الحزب الحاكم تذيب مزيداً من الثلج المتراكم على علاقة الطرفين، بيد أن النتيجة التي بانت ملامحها الأساس حتى الآن، شكلت إحباطاً كبيراً للحزب كحزب عريق في الساحة السياسية في السودان منذ الاستقلال، فطفق ينتقد شفافيتها، لكن الميرغني الذي لم يعرف أبداً بالراديكالية اللفظية في الخطاب السياسي أو التعاطي الفعلي على هديها المندفع، اختار رد الفعل الهادئ المصحوب ببعض السخرية بعد إعلان النتائج في منطقة نفوذهم التقليدي ولاية كسلا آنذاك فقال «الناس الاستقبلونا في كسلا مشوا وين بعد الزلزال الحصل هناك شالهم القاش؟ لكن ده ما موسم قاش إلا يكون قاش آخر». لكن الميرغني سرعان ما تجاوز هذا الإحباط بالوصول إلى تفاهمات مع المؤتمر الوطني قادت الحزب للمشاركة في الحكومة الحالية، بل مشاركة ابنه جعفر الصادق في القصر مساعداً لرئيس الجمهورية، وبالرغم من أن مشاركة الحزب لاقت وقتها اعتراضاً مقدراً من القواعد، لكن الميرغني احتواها بعباءة الكاريزما، وها هو الحزب الآن يفكر في الولوج إلى الانتخابات الجديدة في العام القادم وسط تساؤلات حول مدى مرور هذا القرار على ماكنيزم المؤسسية داخل الحزب، وعن مدى دراسة هذه الخطوة بشكل منهجي وإسقاطاتها ليس على سبيل الكسب المحدود المتولد من التفاهمات التي تتم مع «الوطني» حول الدوائر الانتخابية وما بعدها من حصص سياسية، لكن فيما تخلفه من تأثيرات قيمية تمس أدبيات الحزب الديمقراطية وعراقته وكسبه الانتخابي السابق في النظم التعددية، لكن يبدو أن الميرغني الذي كان قد تساءل عن مصير أصوات حزبه في الشرق وقال«هل شالهم القاش»، يبدو هذه المرة ولسان حاله يقول «المرة دي ما خائفين من القاش» بعد شهر العسل الآن مع الإنقاذ.