«الميرغني سيعود قريباً، الميرغني سيعود في السنة الهجرية الجديدة، عودة الميرغني باتت وشيكة» هذه مقتطفات قليلة جداً مما ظلت تردده صحف الخرطوم في خلال أربع السنوات قبل عودة الميرغني التي تمت في الخامس من نوفمبر 2008 والتي لم يكن مخططاً لها إذ أنها كانت بسبب مرافقته لجثمان شقيقه أحمد الميرغني الذي توفي فجأة في مصر، فقد غطت سحابة الأحزان الداكنة وهيبة الحدث على كرنفال الاتحاديين الحاشد الذي كان الاتحاديون ينوون عبره استقبال زعيمهم محمد عثمان الميرغني، وقبل أن يحطَّ الزعيم الاتحادي الكبير في مطار الخرطوم تواترت تصريحات اتحادية أشارت بأن الميرغني سيمكث زهاء الأسبوع ومن ثم سيعود إلى القاهرة لترتيب العودة النهائية للوطن، بيد أن العديد من المراقبين وقتها كانوا يرجحون بأن الميرغني لن يبارح الخرطوم قريباً بعد ذلك الغياب الطويل، إذ أن للميرغني ملفات عديدة بعضها يخص الحزب وأخرى تتعلق بأملاكه المصادرة، حيث ظلت معلقة منذ صعود حكومة الإنقاذ سدة الحكم في الثلاثين من يونيو 1989خاصة فالميرغني يدرك أن التفاوض حولها لم يكن مثمراً حينما يكون بعيداً عن أسوار الوطن، فالإنقاذ كانت حريصة على عودة المعارضة المؤثرة إلى البلاد لاعتبارات سياسية وأمنية، وهكذا توافرت الظروف البيئية الملائمة للطرفين للتفاوض، لكن سياسيي الإنقاذ الذين عركتهم التجارب والضغوط الخارجية والداخلية لم يكن من السهل أن يقدموا حوافز وتنازلات تتواءم مع أجواء ابتسامتهم العريضة أو تكبيراتهم وتهليلاتهم عقب عقد المفاوضات أو حتى الصفقات، فقد كان الثمن حاضراً على الدوام أمام ناظريهم وإن غاب أمام مفاوضيهم في تلك الأجواء التفاوضية والاحتفالية بعدها، سيما والميرغني قبل حضوره من القاهرة بعد غيابه الطويل ثماينة عشر عاماً كان قد عقد اتفاقية جيبوتي مع الحكومة في العام 1999 ثم اتفاقية القاهرة في عام 2005 مع التجمُّع الوطني الذي يترأسه الميرغني وجميعها لم تلبِ أشواق الاتحاديين في العمل السياسي بعد حرمانهم من سلطة كانوا فيها الوصيف المؤثر إبان الحكومة التعددية التي جاءت بصناديق الاقتراع بعد انتفاضة أبريل عام 1986 حيث أسفرت اتفاقية القاهرة عن دخول عناصر محدودة في الحزب في هياكل السلطة باسم التجمع وليس بوصفهم اتحاديين وهو ما كان قيادة الحزب دائمة التذكير به باعتبار أن الحزب لم يحسم أمر مشاركته في النظام بعد وأن ذلك رهين بإحداث تحولات مؤسسية في السلطة تتيح للحزب المشاركة وفق وزنه السياسي، لكن ذلك لم يحدث بالرغم من أن المفاوضات بين الجانبين لم تنقطع، لكن يبدو أن الحزب رأى أن المشاركة في الانتخابات ربما تفضي إلى وضع سياسي مقدراً للحزب أو على الأقل تفضي إلى تفاهمات مع الحزب الحاكم تذيب مزيداً من الثلج المتراكم في علاقة الطرفين بيد أن النتيجة شكلت إحباطاً كبيراً للحزب كحزب عريق في الساحة السياسية في السودان منذ الاستقلال، فطفق ينتقد شفافيتها، لكن الميرغني الذي لم يعرف أبداً بالراديكالية اللفظية في الخطاب السياسي أو التعاطي الفعلي على هديها المندفع اختار رد الفعل الهادئ المصحوب ببعض السخرية بعد إعلان النتائج في منطقة نفوذهم التقليدي ولاية كسلا فقال: « الناس الاستقبلونا في كسلا مشوا وين بعد الزلزال الحصل هناك شالهم القاش؟ لكن ده ما موسم قاش إلا يكون قاش آخر» لكن لم تمضِ أيام قليلة حين حزم الميرغني أمتعته وتوجه إلى مكانه الأثير القاهرة التي طالما طاب له المقام فيها واعتاد على زيارتها دائماً، فالقاهرة ظلت على الدوام لصيقة تاريخياً بالاتحاديين وظل الاتحاديون بالمقابل لصيقين ومهتدين بهديها السياسي منذ أشواق الاتحاد مع التاج المصري. لكن يمض وقت طويل حين عاد الميرغني من القاهرة، وطوال تلك الفترة لم يفقد المؤتمر الوطني الأمل في دخول الحزب الاتحادي إلى سدة الحكم مشاركاً ليس في السلطة فقط لكن في تحمُّل المسؤولية المليئة بالأشواك والمطبات أمام الشعب والتاريخ، لكن الميرغني عندما رأى أن الإنقاذ دخلت شمعتها العشرين وربما تتأهب للثلاثين وأنها تنازل أعداءها بقوة في الميادين العسكرية وبمكر ودهاء في ميدان السياسية وها هي حتى الولاياتالمتحدة سلّمت بالأمر الواقع وأعلنت زهدها مؤخراً عن إسقاط النظام لذلك لم يجد «مولانا» بداً من التخلي عن مشروع التجمع الإقصائي وعن أحلام «تسلم تسلم» فرأى أنه من الأسلم أن يكون أكثر واقعية بل برجماتية تتجاوز الواقعية السياسية إلى الأسرية فلم يجد حرجاً من دخول ابنه إلى القصر ثم الوصول لتفاهمات جادة تفضي إلى المشاركة في السلطة وربما البحث عن تعويضات أخرى لم يتم التباحث حولها، لكن السؤال هل ستكون مشاركة الاتحادي في الحكومة مرضية للقاعدة الاتحادية خاصة الشباب والمتحفظين من الشيوخ؟ لكن مهما كانت النتيجة فإن الرابح الأكبر هو المؤتمر الوطني.