بالنظر إلى ما يجرى بشكل عبثي على المسرح السياسي السوداني في الوقت الحالي، وذلك على خلفية ما يسمى ب «الوثبة» المزمعة من جانب السلطة الحاكمة القائمة بقيادة حزب المؤتمر الوطني المؤسس من قبل الحركة الإسلامية للنخبة السودانية الحديثة والمعاصرة، قبل إنقسامها وانشقاق المؤتمر الشعبي المعارض عنها، وما نتج من ذلك من تداعيات ظلت متلاحقة حتى وصلت إلى المحطة الراهنة لما يسمى ب«الوثبة» المشار إليها.. إضافة لما يتعرض له الحوار الوطني المطروح في إطار هذه الوثبة المزمعة، وكمقدمة ممهدة لها ومفضية أومؤدية إليها، وخاصة فيما يتعلق بالموقف الحالي والجاري المضي فيها من جانب زعيم حزب الأمة وكيان الأنصار رئيس الوزراء السابق السيد الصادق المهدي.. فربما قد يمكن ويجوز القول إن الوضع السياسي في السودان قد وصل في حراكه العبثي إلى درجة صارت متجهة للعودة إلى الدوران في الحلقة المفرغة والدائرة الخبيثة والشريرة التي ظلت مسيطرة ومهيمنة عليها وسائدة ومستحكمة فيها ومتحكمة بها، وظل يعاني منها منذ الاستقلال الوطني عن الاستعمار الأجنبي البريطاني السابق في منتصف خمسينيات القرن الميلادي الماضي، وطيلة مراحل الحكم الوطني المدني والعسكري في الحقب المتعاقبة منذ ذلك الحين وحتى الآن. وبناءً على نظرة متعمقة ومتأملة ومتمعنة في مثل هذه الرؤية لما جرى بشكل عبثي على المسرح السياسي السوداني في الماضي والحاضر والآفاق المستقبلية المحتملة، تجدر الإشارة إلى أن نظام الحكم المدني الوطني الأول الذي نجح في الوصول إلى الحصول على الاستقلال من الاستعمار، وهو النظام الذي كان قد جاء إلى سدة مقاليد الحكم والسلطة عبر انتخابات برلمانية حرة جرت المنافسة فيها بين القوى الحزبية المتعددة السائدة في تلك الحقبة، ممثلة في كل من الحركة الوطنية الاتحادية بزعامة المرشد الختمي والزعيم الوطني الراحل المرحوم السيد علي الميرغني والحركة الوطنية الاستقلالية بزعامة مؤسس حزب الأمة وكيان الأنصار الزعيم الوطني الراحل المرحوم السيد عبدالرحمن المهدي.. سرعان ما غرق في المصالح الضيقة والمهلكة والساحقة والمدمرة والصراعات الحزبية والشخصية المردودة والقاصرة والساذجة والقصيرة المدى، وظهر عجزه عن الوفاء بما هو مأمول فيه من إثبات القدرة والكفاءة المؤهلة والمخلصة في الحرص على تحشيد الجهود وتكريثها وتوظيفها، في سبيل الاستفادة منها لأقصى درجة ممكنة من أجل إنجاز النهضة الوطنية الشاملة والاستمرار في مواصلة الارتقاء بها. ونتيجة لذلك، إضافة لما حدث فيها على النحو الذي أدى لظهور حركة التمرد المسلحة الاولى المناهضة للحكم الوطني انطلاقاً من الجنوب السوداني، وذلك نتيجة لمؤامرة زرعها الاستعمار البريطاني السابق، وظل راعياً لها، الى جانب اسباب وعوامل أخرى تعود الى حالة الغفلة الوطنية والرؤية السياسية الساذجة والقاصرة والقصيرة المدى، التي كانت سائدة وطاغية ومهيمنة ومسيطرة ومتصاعدة ومتزايدة على النحو المشار إليه أعلاه، فقد كان من الطبيعي ان يتم اللجوء الى القوات الوطنية المسلحة لتتولى سدة مقاليد الحكم في البلاد على النحو الذي جرى العام 1958م. وعندما أخفق الحكم الوطني العسكري الأول، وعجز عن إثبات القدرة والكفاءة المؤهلة للتعامل مع الأوضاع السياسية المزرية والمتردية التي كانت قائمة وفاعلة ومتفاعلة، اضافة الى ما نتج عن ذلك من الفرص السانحة التي اضحت متاحة لمؤامرات أجنبية معادية لم تتردد أو تتوانى في الاقدام على القيام بانتهاز تلك الفرص والاستفادة منها، فقد تمت الإطاحة بالحكم الوطني العسكري الاول عبر ثورة شعبية انحاز لها ودعمها وتلاحم معها صغار الضباط من الجيل الجديد في صفوف القوات المسلحة العام 1964م. ثم دارت الدائرة الشريرة وعادت الحلقة الخبيثة والمفرغة، عبر الممارسة السياسية القاصرة والساذجة والقصيرة المدى والناجمة عن صراعات حزبية مهلكة ومدمرة ومصالح شخصية ضيقة للقوى المتنافسة وزعاماتها وقياداتها في تلك الحقبة، وذلك على النحو الذي أفضى وأدى الى الحكم العسكري الوطني الثاني عبر انقلاب ثوري يساري استولى على سدة مقاليد السلطة في العام 1969م، وظل يتقلب من ذات الشمال الى ذات اليمين الى حين الوصول الى محطة أخيرة، تمت الاطاحة به فيها عبر انتفاضة شعبية انحازت لها القيادة العامة للقوات المسلحة العام 1985م. ثم دارت الدائرة المفرغة وعادت الحلقة الشريرة والخبيثة على ذات الشاكلة، وكأننا يا عمرو لا رحنا ولا جئنا، أو اننا كحال البوربون الذين لم ينسوا شيئاً ولم يتعلموا شيئاً في التجربة الشهيرة بفرنسا، حتى جاء الانقلاب الثوري المدني والعسكري الذي أقدمت على القيام به الحركة الإسلامية للنخبة السودانية الحديثة والمعاصرة في العام 1989م.. ثم جرى ما جرى بعد ذلك على النحو الذي افضى الى تهيئة الأجواء للموافقة على انفصال جنوب السودان عن الشمال، ثم الاعلان عن وثبة مزمعة صارت هي الأخرى مهددة بما أشرنا إليه أعلاه، وسنرى وربما كانت لنا عودة...