شهدت منطقة «الزراف» ب «سودري» حادثاً مأسوياً الأيام الماضية فقد انفجر «تانكر بنزين» وسط مناطق التعدين الأهلي للذهب مما أدَّى إلى مقتل أربعة أشخاص وإصابة «341» شخصاً بحروق بعضها إصابات بالغة، نُقلوا إلى مستشفيات الخرطوم والأبيض، النهود، وغبيش وحمرة الشيخ.. غير الخسائر الجسدية هناك خسائر مادية قُدِّرت بأكثر من مليار جنيه نتيجة احتراق السوق وممتلكات المعدنين، لكن الجدل الآن لم يعد حول الحادث وخسائره بيد أن الحديث عن الحادث قد فتح العيون إلى مخاوف قادمة وأسئلة كثيرة بعضها مركزي وبعضها الآخر ولائي.. التقديرات والرصد الرسمي تؤكِّد أن أكثر من ثلاثمائة ألف شخص هم الذين يمتهنون التعدين الأهلي في كل ولايات السودان هذا بالطبع غير نسبة ال «52%» من المهن الأخرى «ستات الشاي، التجارة بأنواعها، أندية المشاهدة» وغيرها من الحِرَف.. محلية سودري وحدها نصيبها من هذا العدد أكثر من خمسة وأربعين ألف معدن.. هذه مُدن بحالها بينما حالها عشوائي في العراء «رواكيب وخيام». هذا العدد من المعدنين بغض النظر عن أنهم دائمون أو مؤقتون هم بحاجة إلى خدمات في الأمن والصحة والرقابة، وفوق هذا كله التنظيم والترتيب ولعل تنظيم الأسواق والسكن ومواقع الاستخلاص يأتي في سلم الأولويات، فقد حدَّثني شهود عيان أثناء وقوع الحادثة بعضهم لفحته ألسنة النيران قالوا: «إن التانكر كان متوقفًا وسط السوق وقد أوقدت نار حوله مما أدى للتسرب والانفجار ثم احتراق السوق، وبعضهم قال: إن الحادثة أشبه بالفيلم السينمائي، ترى الرجل جارٍ والنيران مشتعلة في ثيابه والآخر تلحق به النيران وهو جارٍ حد قوته وبدون أية وسائل سلامة أو إنقاذ أو إسعاف». وهنا يبرز السؤال: على مَن تقع مسؤولية حماية المعدنين الأهليين وتأمينهم؟؟! وعلى مَن تقع مسؤولية الخدمات في مناطق التعدين؟؟!.. هل الشأن اتحادي حيث تذهب موارد الذهب الصادر أم ولائي حيث الاكتفاء بتحصيل الرسوم والجبايات دون مراعاة تنظيم الأسواق والمهنة.. في السابق كانت هناك شرطة البترول والمعادن لكن يبدو أن هذه الشرطة لم تواكب بعد تقسيم الوزارات وكذلك الانتشار الواسع للتعدين الأهلي شمالاً وشرقاً وغرباً ووسطاً.. فقد أصبحت مسؤولية الأمن في مناطق التعدين من اختصاص المحليات بإمكاناتها المحدودة والمعروفة.. وفق الواقع وإفرازاته تبقى هناك ضرورة تأهيل شرطة المعادن لتشمل الولايات وتتوسع مهامها أكثر من حصرها في حماية الشركات ومواقعها من التعدي عليها من الأهالي..ما جرى في «الزراف» نبَّه إلى ضرورة وجود «دفاع مدني» لينضم إلى أفراد شرطة المعادن، وهناك ضرورة قصوى إلى وجود مرافق صحية كافية وإسعافات حتى ولو كانت متنقلة لسد الفجوة؛ لأن مناطق التعدين الأهلي هذه تقع في مساحات وعِرة ونائية إذا حدث طارئ يظل من الصعوبة اجراء إسعافات عاجلة، فأحياناً التواصل يصبح معضلة ولتلافي العزلة الأمر يتطلب تواصلاً وتنسيقًا مع شركات الاتصالات لعمل شبكات خاصة «عربات بانتينا» كحالات خاصة في المناطق التي ليست بها شبكات اتصالات.. حدثت ربكة في منطقة «الزراف» أثناء عملية إسعاف ال «341» حالة إصابة فبينما استأجرت وزارة المعادن طائرة خاصة لنقل المصابين وإسعافهم وأثناء البحث عن معلومة عما كان مطار الحمرة يستوعب هبوط الطائرة كان الأهالي وبإشفاقهم على ذويهم فقد أسعفوهم «باللواري والسيارات» إلى المستشفيات سالفة الذكر لأخذ العلاجات وسط «ضجر وهياج» من عدم وجود الأطباء الكافي في المشافي القريبة من مكان الحادث.. اللائحة التي أصدرتها وزارة المعادن حدَّدت بأن يكون التعدين الأهلي في عمق لا يتجاوز الأمتار العشرة، وعادة الأهالي لا يلتزمون ويتجاوزون، والمحليات لا تلجأ للإيقاف؛ لأنها لا تريد وقف مصادر الإيرادات التي فتحها عليها رب العزة والقدرة.. فقط تشترط على المعدِّن إذا تجاوز الأمتار العشرة أن يأتي بآلة ويدخلها العمل توسعة للبئر وتأميناً للمعدنين حتى لا يقع الضرر وفي ذلك أيضاً رسوم واتاوات.. «طيب» ما الذي يحدث إذا انهار منجم بأكمله؟؟! ما هي وسائل السيطرة والإنقاذ؟؟! وهل توجد آليات تتبع للحكومة تعنى بالإنقاذ والسلامة؟؟! الإجابة لا توجد ولا أعتقد هناك من يتحمَّل المسؤولية سوى صاحب المنجم المسجل باسمه ومرخصه له هو من يتحمَّل وزر وأعباء ما جرى بدءًا من استئجار اللودرات وآليات الحفر إلى آخره من تبعات ليست لها رأس ولا «قعر».. قد يقول البعض إن الذي جرى في منطقة «الزراف» هو ليس من صميم المناشط المباشرة للعملية التعدينية وبالتالي لا تقع المسؤولية على وزارة المعادن والجهات المسؤولة بيد أنني أقول إن الذي حدث جزء من العملية التعدينية؛ لأنه لولا التعدين والبحث عن الذهب لما ذهب كل هؤلاء وانتشروا في تلك الصحاري والبيداء ومن ثم من تبعات عملية التعدين مما يتطلب وضع رؤية أشمل في إدارة هذا القطاع وتطويره بما يراعي تجارب الدول الأخرى التي سبقتنا في هذا المجال فالسودان ليس الدولة الأولى التي يمتهن شعبها التعدين الأهلي فهناك في إفريقيا وحدها نجد جنوب إفريقيا وإثيوبيا وزامبيا وغيرها وكل هذه الدول لديها تجربة خاصة في هذا المجال بلغت مراحل متقدمة من الابتكارات وإحلال الطرق التقليدية التي يتم بها التعدين واستخلاص الذهب، ولا بد من استخدام مواد بديلة للزئبق المستخدَم بصورة فاحشة في مناطق التعدين الأهلي رغم ثبوت أضراره الصحية والبيئية!!..