تابعت المجتمعات السياسية بإعجاب شديد السلوك السياسي الحكيم لزعيم الحركة الإسلامية التونسية، فمنذ نجاح الثورة التونسية وإقصاء طاغية تونس بن علي وعودته للبلاد بعد اثنين وعشرين عاماً في منفاه ببريطانيا.. أعلن أنه لن يترشح لرئاسة الجمهورية كما أنه لن يترشح لكي يكون عضواً في البرلمان وأن المناصب والقيادة في حركته ستكون للشباب الذين صنعوا التغيير وليس الشيوخ الطاعنين في السن أمثاله.. كما تابعت المجتمعات نفسها السلوك الرصين للشيخ الغنوشي بعد أن فاز حزبه بنحو 41% من الأصوات من أن حزبه لن يحتكر السلطة وأنه سيحاور الأحزاب الأخرى للوصول الى حكومة قومية تمثل القوى السياسية بمختلف أطيافها.. وكان أن توصل الغنوشي إلى اتفاق مُرضٍ مع القوى السياسية نالت بموجبه حركة النهضة منصب رئاسة الوزراء ومنحت منصبي رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان للحزبين التاليين لحزب النهضة في نتائج الانتخابات. وخلافاً لنهج الغنوشي أراد الشيخ الدكتور أن يهيمن على السلطات جميعاً فقد أصر على الترشح لدخول البرلمان بعد أن تم إقصاء أحد المرشحين المحتمل فوزهم، وبعد أن دخل البرلمان قفز إلى رئاسته ثم شغل منصب الأمين العام للحزب وعندما استشهد الزبير محمد صالح رشح نفسه نائباً للرئيس ثم تكتك لكي يكون مرشح الحزب لرئاسة الجمهورية وعندما حال تلاميذه دون ذلك لمعرفتهم ضعف شعبيته لدى السودانيين وعدم قبوله في المحيط الإقليمي والدولي، أراد أن ينقل سلطة الدولة كلها إلى منصب الأمين العام فأعد لائحة تعطي الأمانة العامة السلطة النهائية فوق المجتمع والدولة، وهكذا عمل كي يهيمن هيمنة كاملة على السلطات الثلاث التشريعية والحزبية والتنفيذية الحكومية وهي نفس السلطات التي تمتع بها جمال عبدالناصر وصدام حسين ومعمر القذافي.. وقد أدت محاولته للانفراد بالسلطات الثلاث إلى مذكرة العشرة الشهيرة التي أنكرت على الأمين العام سعيه للانفراد الكامل بالسلطة وتنكره للشورى والمؤسسية والفصل بين السلطات وكان من تداعيات ذلك وقوع أحداث المفاصلة الشهيرة من حلّ البرلمان وانقسام الحركة الإسلامية وتحول الشيخ الدكتور برصيده الضخم في العمل الإسلامي الى معول هدم للمشروع الذي بناه انتقاماً من الذين حالوا دون أن يكون سلطة مطلقة على الدولة والمجتمع.. إذن فالمفارقة كبيرة بين سلوك الغنوشي وسلوك الشيخ الدكتور وقد يكون الغنوشي متعظاً بما قام به الشيخ الدكتور فزهد في المناصب فأحبه تلاميذه وكل مجتمع تونس ففوزوا حزبه في الانتخابات، ووثقت به القوى السياسية من يسارية وعلمانية فتضامنت معه لتكوين الحكومة وتوزيع المناصب توزيعاً عادلاً وتضامنت معه لقيادة سفينة الدولة قيادة رشيدة في بحر متلاطم الأمواج.. وأذكر أنني ُزرت تركيا عام 1997م في الوقت الذي ضغط العسكر على نجم الدين أربكان فقدم استقالته من منصب رئيس الوزراء وقلت لأحد الاتراك من هو خليفة أربكان خاصة وأنه كان في السبعينيات من عمره فقال على الفور طيب رجب أردوغان وكان وقتها عمدة لمدينة إستطنبول وحقق فيها نجاحات بارزة.. وعندما زُرت تركيا قبل سنوات قلت لأحد الأتراك بعد أن صعد نجم اردوغان وأصبح رئيساً للوزراء، أين أربكان قال لي فعلنا به مافعلتم أنتم بشيخكم الدكتور.. وسبب التحاق أربكان بمصير الشيخ الدكتور هو عدم إحساسهما بمُضي الزمن وعدم استيعابهما لحركة وصعود الأجيال «والكنكشة في المناصب» خاصة إذا علمنا أن الشيخ الدكتور ظل في منصب الأمين العام منذ عام 1964م حتى اليوم. فالتحية للشيخ الغنوشي الذي ضرب مثلاً رفيعاً في الزهد في المناصب وعدم الحرص على السلطة وإحساسه الكبير بحركة الزمن وحق الأجيال اللاحقة والمتلاحقة وأن المثل الكبير الذي ضربه سيكون هادياً للحركات السياسية في مصر وليبيا واليمن وكل دول ربيع الثورات العربية اللاحقة والمتلاحقة، وأتمنى أن يقوم الشيخ الوقور الغنوشي بكتابة وتوثيق سيرته السياسية كي تكون مثلاً ونبراساً لمن حوله ومن بعده من الحركات السياسية في عالمنا العربي والإسلامي .