بدأنا تعليقنا في الحلقة السابقة على ما أثاره السيد مدير عام هيئة الإمدادات الطبية على هامش زيارة لجنة برلمانية للهيئة، وقد هالنا أن سيادته بدلاً من أن يهتبل تلك السانحة ليطرح قضايا كبيرة وحقيقية، إن وجدت، راح ينتقل من موضوع إلى موضوع، ومن حديث إلى آخر، ولا تكاد تجد بينه رابطاً، بل ربما كانت من نوع الكلام الذي يصفه الأستاذ الطاهر ساتي ب «الكلام اللا إرادي»!! سيادته كان قد صرح بأنه سيترك منصبه حال دخول أدوية غير مطابقة للمواصفات، وقلنا إن رهان السيد المدير العام على منصبه هو رهان في غير محله لأنه، ببساطة، ليس الجهة التي تحدد مدى مطابقة الأدوية للمواصفات، أو عدم مطابقتها بما في ذلك الأدوية التي تشتريها الإمدادات الطبية نفسها!! إذن لماذا يراهن سيادته على منصبه في أمر لا يدخل في دائرة عمله واختصاصه الوظيفي.. نحن إما أمام حالة مزايدة و«شو إعلامي» أو أن سيادته في حالة غتراب ذهني ومهني يحجبان عنه رؤية حدود الاختصاص لكل مؤسسة ولكل وظيفة. كما أنه قد أتيحت لسيادته الفرصة لمغادرة منصبه، إن كان صادقاً، يوم أن أدخلت الإمدادات الطبية أدوية علاج السرطانات من مصادر غير معهودة وهو أمر سارت به ركبان الصحافة، لكن سيادته لم يغادر منصبه يومها بل ولم يراهن على منصبه. وقد نصب سيادته محكمة لبعض السادة وزراء الصحة بالولايات متهماً إياهم ببيع الدواء «المجاني» للمرضى، متجاهلاً أن اتهاماً كهذا يتمدد ليشمل الولاة وحكومات الولايات ومجالسها التشريعية وكلهم مسؤولون عن اختيار هؤلاء الوزراء ومتابعة ومراقبة أدائهم، بل وهم مسؤولون عن تلك الأدوية بعد استلامها من الإمدادات الطبية، بينما تنحصر مهمة الهيئة «الإمدادات» في توفير الأصناف الدوائية المطلوبة فقط. وحتى إذا افترضنا صحة إدعاء مدير الإمدادات الطبية في مواجهة أولئك الوزراء، فذلك أمر يجب ألا يستغربه أحد، فسيادته هو من وضع أمر الدواء كله بين يدي السادة وزراء الصحة بالولايات متجاهلاً وجود المديرين العاملين ومديري إدارات الصيدلة، وذلك غير ما أسماه اتفاقية «صندوق الإمداد الطبي الولائي»، وهي اتفاقية مختلة دستورياً وقانونياً وسياسياً وفنياً، وآمل من السادة الولاة والوزراء مراجعتها على وجه صحيح ودقيق بواسطة أجهزتهم الولائية والقانونية والفنية المختصة. وبهذا فإن حديث المدير العام للهيئة عن بيع الدواء «المجاني» يمثل حلقة أخرى من حلقات الاغتراب الذهني التي لا تربط بين الأشياء، ولا بين المقدمات والنتائج. كما حاول سيادته فرد جناحي أستاذية مدعاة وهو يصنّف الوزراء إلى مجتهدين، وبمفهوم المخالفة، سنجد آخرين غير مجتهدين، وسنجد أن رجلاً في قامة بروفيسور مامون حميدة، وآخر في قامة د. الفاتح مالك وغيرهما، يدخلون دائرة «عدم الاجتهاد» التي رسمها مدير الإمدادات الطبية. ثم نذهب لنبحث في دقة الأرقام التي ذكرها سيادته، أرقام سيادته دائماً تحتاج إلى توضيحات، وسنناقشها بالقدر الذي يوضح للمسؤولين غير المتخصّصين مدى خطئها وخطأ معايير قياسها. يقول سيادته إن الأدوية متوفرة بنسبة «95 في المائة» في السودان، ولما لم تكن الإمدادات الطبية هي الجهة التي تملك المعلومات الخاصة بتلك الوفرة، فإننا سنفترض أنه يقصد بهذه النسبة أدوية هيئة الإمدادات الطبية فقط، وليس كل الأدوية من المصادر الأخرى ولكل السودان. ونسبة توفر الدواء يصعب على مدير عام الهيئة تقديرها وتحديدها، كما يصعب الأمر أيضاً على كل الجهات، ببساطة لأننا نفتقد الأرقام المرجعية التي تنبني عليها نسبة الوفرة، أي الأرقام التي تحدد جملة استهلاك السودان من الأصناف الدوائية المختلفة، وهي أرقام غير متوافرة وغير متاح عوامل توفرها في الوقت الحالي!! سؤال آخر يثيره حديث ال «95 في المائة» هذا: هل هذه النسبة مرتبطة بعدد الأصناف فقط، أم بعدد الأصناف وكمياتها معاً؟ لأنه لو كانت الأولى، أي عدد الأصناف فقط، أم بعدد الأصناف وكمياتها معاً؟ لأنه لو كانت الأولى، أي عدد الأصناف فقط، ستكون النسبة المذكورة هي نسبة مضروبة ومضروبة ثم مضروبة ومخاتلة وغير صحيحة علمياً ومهنياً ومنطقياً وموضوعياً وواقعياً. كما أنه عند تحديد نسبة الوفرة، لا بد من ربطها بفترة زمنية محددة، ونحن هنا نسأل إن كانت نسبة ال «95 في المائة» تلك، هي نسبة الوفرة لثلاثة أشهر أم لستة أشهر أم لعام كامل.. العلم بعد الله عند السيد مدير عام الهيئة. ثم نذهب لموضوع آخر مرتبط بأرقام أخرى تحتاج إلى توضيح.. فسيادته يذكر دواءً غالياً يبلغ سعره ألفين وستمائة جنيه «جديد» وتبيعه الإمدادات الطبية للمريض بمبلغ خمسمائة جنيه فقط، ولكنه لا يذكر أن هذا الفرق في السعر لا تدفع منه الإمدادات شيئاً ولا تخسر بهذا التخفيض جنيهاً، حسب ما يُفهم من سياق حديثه، وهذا الفرق الناجم عن تخفيض بعض الأصناف الدوائية يدفعه مرضى آخرون، بمعنى أن تخفيض أسعار أدوية معينة يصحبه ارتفاع في أسعار أدوية أخرى عبر ما يسمى سياسة «الدعم المتقاطع» وليس فيها شيء جديد، ولكن أن يحاول السيد المدير العام الإيحاء أن الإمدادات الطبية تخسر نتيجة هذا التخفيض فهو أمر غير صحيح. رحم الله د. محمد المهدي مندور، وقد عملت معه لمدة عامين، وشهدت كيف كان يعالج أمر الأدوية المرتفعة السعر، وشهدت كيف كان يعالج حالة المرض المعسرين الذين لا يستطيعون دفع قيمة أدويتهم، وكان يخصّص لهذا الغرض مبلغ ثلاثمائة مليون جنيه، أي مائة ألف دولار أو تزيد، كما سعى، رحمه الله، إلى إعداد قانون لتحويل الإمدادات الطبية إلى شركة وقفية يعود ريعها لشراء أدوية المرضى من الفقراء. في مقالات قادمة سنعالج أمر «صنادق الإمداد الطبي الولائي خاصة ما يتصل بعلاجات الحوادث وأدوية الدعم العالمي.» إن شاء الله.