جاء في إحدى الصحف اليومية مؤخراً أن غردون باشا حاكم عام السودان عند اندلاع الثورة المهدية قتل واجتث رأسه وهو هارب بلباس النوم «بيجامة» مسرعاً باتجاه النهر «النيل الأزرق» قبالة القصر لينجو على ظهر مركب ما. هذه رواية غير صحيحة زعم الكاتب الأستاذ عبد المحمود الكرنكي أنها وردت في كتاب ذكريات لمؤلفه سكرتير خاص لغردون. وأن الكتاب موجود في مكتبة طيب الذكر حفيد الخليفة عبد الله محمد داؤود الخليفة. إلا أن إجماع الثقاة من المؤرخين، سودانيين وأجانب، وبعض المعاصرين لتلك الحقبة، أن غردون قُتِلَ داخل القصر وهو يرتدي زيه العسكري ويحمل سلاحه الشخصي «مسدس». ومن هؤلاء الثقاة سكرتيره الرسمي إبراهيم فوزي في مذكراته بعنوان «السودان بين يدي غردون وكتشنر»، ويوسف ميخائيل القبطي كاتب الخليفة عبد الله وصفيه، والدكتور محمد إبراهيم أبو سليم شيخ مؤرخي المهدية في كتابه بعنوان «الآثار الكاملة للإمام المهدي». جاء في مذكرات يوسف ميخائيل التي حققها وقدم لها الدكتور أحمد إبراهيم أبو شوك ونشرها عام 2004 ما يلي عن أين وكيف قتل غردون: «... كان غردون باشا لابس بدلته ونزل من السراية ]القصر[ لأجل مقابلة المهدي، وهو نازل من أعلى السلالم حتى وأن هجم عليه الدراويش «الأنصار» وقتلوه مع كاتبه قرياقيص أفندي القمص...». إذن غردون لم يقتل هارباً، وإنما قتل مرتدياً زيه العسكري وداخل القصر الذي ظل مستعصماً به طيلة أشهر حصار الخرطوم. وقد وردت تفاصيل ذلك الحصار واقتحام ثلة من الأنصار للقصر وقتل غردون في كتاب الدكتور ميمونة ميرغني حمزة بعنوان: «حصار وسقوط الخرطوم». إن اختلاف المؤرخين لم يكن حول أين قتل غردون وإنما حول إن كان قتله خروجاً على توجيهات الإمام المهدي بأسره حياً ليفتدي به زعيم الثورة المصرية عام «1882» السجين في منفاه: أحمد عرابي باشا. ورد هذا الزعم في كتاب سلاطين باشا: «السيف والنار»، فيما لم يرد ذكر لهذا الأمر في أي من منشورات المهدي، كما خلت مخاطبته للأنصار قبيل اقتحام المدينة فجر السادس والعشرين من يناير «1885» من أي توجيه حول سلوك المقاتلين بعدم قتل الجرحى والأسرى، بل قال في ذلك الخطاب: «... أتتني الحضرة النبوية من النبي صلي الله عليه وسلم ونبي الله الخضر عليه السلام وأمرني سيد الوجود بقتل أهالي الخرطوم وأرواحهم مقبوضة ما عليكم إلا الطعن بالحراب وقطع البحر من البر الغربي إلى البر الشرقي بمشروع الفتيح «الفتيحاب جنوبأم درمان»... وكما جاءت في مذكرات ميخائيل. وهكذا يظل خبر توجيه الإمام المهدي عليه السلام بعدم قتل غردون رواية شفاهية مشكوك في صحتها تنتظر الغربلة والتمحيص وفقاً لمنهج تحقيق الروايات الشفاهية. د. حسن عابدين باحث في التاريخ تعليق: أشكرك يا أخ حسن عابدين «سابقاً» كما اعتدت أن تقدم نفسك. إن تاريخنا يحتاج إلى غربلة وإلى إثبات ما يصح إثباته وحذف ما لم يثبت. وحقيقة فإن الإعتقاد السائد أن المهدي لم يكن موافقاً على قتل غردون وأنه تحسر على قتله لأنه كان يريد أن يبادله بأحمد عرابي المسجون في مصر، بينما تجاهل الرواة ما ورد صراحة في منشور المهدي الذي أشرت إليه. لقد جاء في النسخ القديمة من كتاب «تاريخ وجغرافية السودان لنعوم شقير» إن مجاعة سنة ستة «1306» هجرية التي ضربت البلاد إبان عهد الخليفة عبد الله أن «أحد الثقاة حدثني كنت في مجاعة «1306 ه» في كسلة «هكذا كتبها» في أمارة حامد البقاري وكيلاً على السوق فوجدت امرأة تطبخ في قدر، فكشفت القدر فإذا فيها يدا عروس لا يزال عليهما أثر الحناء، فسألتها فقالت إني دخلت ليلاً على عروس فلان مع فلانة وفلانة فوجدناها قد أشرفت على الهلاك جوعاً فذبحناها واقتسمنا لحمها للتقوت به. قال محدثي وكثيراً ما رأيت الموتى قد بقرت جثثهم وأخذت أكبادهم طعاماً للجياع إلى غير ذلك من الأخبار الرائعة المحزنة» أه. محزنة معليش إنما رائعة دي تجي كيف يا عمنا نعوم شقير؟ لم أجد ذكراً لذلك في الطبعة الأخيرة من الكتاب المذكور. وكنت أبحث عن إجابة لسؤال أتعبني البحث عن إجابة له: إذا كان الناس في زمن مجاعة سنة ستة قد أكلوا حبال القد وأكلوا الكلاب وأكلوا الجيف.. لماذا لم يأكلوا السمك وقد كان موجوداً بكثرة بعد أن تقطع النيل لبرك؟ أشكرك أخي الدكتور حسن عابدين «سابقاً» السفير السابق، وأرجو أن نهتم بتصحيح الروايات الشفاهية في تاريخنا.