إنعام عامر هل أنشأت إسرائيل علاقات مع زعامات وقيادات تأريخية سودانية، كيف ومتى ولماذا أنشأت تلك العلاقة، وهل نجحت في ذلك، وهل أثر الوجود التأريخي لليهود في السودان على أحداث الملف، وهل كان ذلك الوجود وليد الصدفة المحضة أم أنه كان مقصوداً»؟ لوضع النقاط على الحروف ربما تطلب ذلك الرجوع إلى تأريخ الوجود السياسي لليهود في السودان، ومدى تغلغلهم في أجهزة ومفاصل الدولة السودانية في ظل الاستعمار البريطاني ولاحقاً عقب استقلال السودان. وحال الاطلاع على العديد من الوثائق والتفاصيل ذات الصلة بالملف، ربما يتبادر إلى الذهن أن الإداريين اليهود شكلوا أحد المفاصل الرئيسة خلال فترة الحكم البريطاني على البلاد. ملفت هو السجل الذي يوضح عدد الموظفين ذوي الأصول اليهودية من قيادات الصف الأول إبان فترة الاستعمار بالبلاد. تمكنوا في عهد الإدارة البريطانية من العض على مفاصل التجارة والاقتصاد في البلاد. السيانات.. مهام خاصة لا أحد يعلم تحديداً كيف ومتى بدأت إسرائيل إرسالهم إلى السودان، ولا تلك المهام التي أنيطت بهم، ربما لضعف التوثيق خلال فترات سابقة تعود إلى القرن الماضي، لكن يرجح أن يكون العديد من اليهود الذي شغلوا مناصب إدارية عليا في الخرطوم إبان العهد البريطاني عملوا على توثيق تلك العلائق. وهنا لم تكن اعترافات «استروفسكي» ضابط المخابرات الإسرائيلي الذي هرب إلى كندا وألف كتاب «عن طريق الخداع»، محض الصدفة، فقد أكد أن اليهود الذين يعيشون خارج إسرائيل يشكلون على الدوام دعماً لوجستياً لتل أبيب، وهؤلاء يطلق عليهم «السيانات» وعرفوا باليهود الناشطين لدعم إسرائيل بلا مقابل، فهم تحت الخدمة ومستعدون لها على الدوام. «آي سيجال» اليهودي في الخرطوم تقليب صفحات هذا الملف ربما تثير الدهشة والتساؤلات على نحو ما.. من هو هذا الرجل ومن أين جاء إلى السودان؟ يقول سجل الرجل إنه من بين اليهود الذين انخرطوا في العمل في السودان إبان الحكم الثنائي. جاء «سيجال» من فلسطين وأصبح في فترة قصيرة كبير مسؤولي الجوازات في الخرطوم، وهو منصب حساس للغاية. ويشار إلى أن الكتيبة البريطانية الوحيدة الموجودة في السودان منذ إعادة الفتح في العام«1899» كان أغلب عناصرها من اليهود، على أن ما يزيد من تلك الدهشة هو أن الرجل الذي أنشأ عصابة «الهاغاناة» التي كانت نواة تكوين الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية، وخرج من رحمها جهاز الموساد الإسرائيلي، وتمخض شكله الجيني داخلها، قال عنها بن غوريون«إن أولويات تلك المنظمة هو تعزيز شبكة استخباراتنا»، كان أيضاً ضمن الذين عملوا في حكومة السودان وهو الميجر جنرال أوردي شارلس ونجت «1903-1944م»، وهو حسب جمال الشريف الكاتب والباحث في تأريخ السودان، أن شارلس هو ابن عم السير ونجت باشا حاكم عام السودان خلال الأعوام «1899-1944م». وقال ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل في حق الجنرال أوردي شارلس «إن هذا الرجل كان سيكون أول رئيس هيئة أركان قوات الدفاع الإسرائيلية لولا موته المبكر». وقال عنه موشيه دايان وكان قد عمل مع سارلش «إن شارلس علمنا كل ما نحتاج إليه». وتخرج شارلي ونجت في الكلية العسكرية البريطانية في العام 1923م وفي العام 1928م التحق بالخدمة في حكومة السودان، وفي العام 1935م أنشأ وحدة سرية من الفدائيين اليهود للتصدي للثورة التي قادها الفلسطينيون، وغفل راجعاً إلى بريطانيا في العام 1939م، وفي نفس العام وقبل اندلاع الحرب العالمية الثانية كون شارلس قوة عسكرية من السودانيين والبريطانيين والإثيوبيين وقادهم للحرب ضد الطليان في إثيوبيا. وحدة«غيدون» وكون شارلس ونجت وحدة أخرى من قوات الهاغاناة ومنظمات إسرائيلية أخرى أطلق عليها اسم «غيدون» «Gideon Force» تخليداً للقاضي اليهودي غيدون، استعان بهم في عملياته ضد الطليان في إثيوبيا. ويرى البروفيسور «ود وورد» حسب كتاب الصراع السياسي على السودان أن قوة «غيدون» التي قادها شارلس تكونت بشكل رئيس من قوات سودانية. جنرالات يهود اللورد كتشنر «1850-1916» أول حاكم عام للسودان ينتمي إلى أصول يهودية، ولد في آيرلندا لأسرة عسكرية ذات جذور يهودية، درس في الأكاديمية الملكية العسكرية والتحق بقطاع الهندسة الملكية، عمل لصالح قيام الدولة الإسرائيلية وأسهم في مسح خريطة إسرائيل تحت واجهة صندوق استكشاف فلسطين في العام 1874 وفي العام 1877 أكمل كتشنر رسم الأراضي التي تسمى اليوم بإسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة، واستخدمت تلك المعلومات المساحية التي وضعها كتشنر في تحديد ووضع الخرائط الحديثة لإسرائيل، وفي العام 1892 عين سرداراً للجيش المصري برتبة فريق، وقاد القوات البريطانية المصرية إلى السودان وأصبح بعدها أول حاكم عام للسودان. وينتمي كل من أمين باشا، وسلاطين باشا«1857-1932» إلى أسرة ذات أصول يهودية. زار الأخير السودان لأول مرة في العام 1874 وعمل مع نائب القنصل الألماني بالخرطوم، وزار كردفان واتفق مع أمين باشا على زيارة الإستوائية وعملا معاً. وعين سلاطين حاكماً عاماً لدارفور وعقب مجيء الثورة المهدية استسلم وسلم شخصه وإقليمه إلى أن تمكن من الهرب وعاد إلى السودان وعمل مفتشاً عاماً إلى العام 1924م. طائرات «العال» الإسرائيلية تهبط مطار الخرطوم وكان العام 1949 عاماً مفصلياً في تطور العلاقة الاقتصادية بين الإدارة الاستعمارية في الخرطوم وبين تل أبيب، وأهمية ذلك في كونه حدث عقب إنشاء دولة إسرائيل بعام واحد فقط، وحسب «الصراع السياسي على السودان» للباحث والصحافي جمال الشريف فإنه قد سمحت الخرطوم في ذلك الوقت لطائرات العال الإسرائيلية الهبوط والتزود بالوقود في مطار الخرطوم وعبور الأجواء السودانية. وبدأت العلاقة التجارية بين حكومة السودان وإسرائيل في أوجها عقب وصول بعثة تجارية إسرائيلية قوامها «50» شخصاً لشراء البضائع والمنتجات السودانية، وكانت ترحل إلى إسرائيل عبر دولة جنوب إفريقيا. وبلغت الصادرات السودانية حينها إلى إسرائيل خلال الأعوام الثلاثة على التوالي 1949-1953 «450» ،ألف «697»، «343» ،«800» ألف جنيه إسترليني. وحسب الشريف يقول جهاد عودة، منذ العام 1951 اتضح أن هناك بعثة تجارية إسرائيلية في الخرطوم قوامها «50» شخصاً لشراء وتصدير المنتجات والبضائع السودانية إلى إسرائيل عن طريق جنوب إفريقيا بسبب تعنت المقاطعة المضروبة عليها، وهنا لم تستسلم تل أبيب ومنذ العام 1954 بذلت سفارة إسرائيل في لندن محاولات عدة لكسر حدة المقاطعة التجارية المفروضة عليها، وبدا لها السودان وهو يقع تحت الاستعمار في أضعف الحلقات التي يمكن كسرها وربما استفادت الحكومة الإسرائيلية هنا كثيراً من دعم بريطانيا اللا محدود لها. وكان ضمن تلك الجهود محاولات موردخاي غازيت السكرتير الأول في السفارة الإسرائيلية بلندن طلب المساعدة من المستر وليام موريس مدير الإدارة الإفريقية بوزارة الخارجية البريطانية إلا أن بريطانيا ردت رسمياً بقولها «نفضل ترك الأمر للسودانيين أنفسهم». ولا يفهم على وجه التحديد ما إذا كان رد السفارة البريطانية جاء ديبلوماسياً كي لا تخسر السودانيين، أم أنها بالفعل كانت لا تريد أن تتدخل في الأمر، وهنا ربما تناقض الوقائع حديث الخارجية البريطانية بخصوص العلاقات السودانية الإسرائيلية في ذلك الوقت، فقد تدخلت لاحقاً بشكل رئيس وجسَّرت الطريق بين شخصيات إسرائيلية وسودانية.