كان لا بد أن نجيء بالكرة. نظر العيال نحوي لأن شوطتي القوية هي التي طيّرت الكرة إلى المبنى المجاور. رفعني العيال على أكتافهم. تسلقت السور؛ رميت بنفسي فيى حوش المبنى. يا له من منظر جميل كأنه الجنة حوش المدرسة كان أحلى ما فيها. لما رأيته أول مرة في العام الماضي حين أتى بي أبي وسلمني لهذه المدرسة ظننت أنه لطابور الصباح فحسب؛ إلى أن ضرب جرس الفسحة وصرنا نهرول فيه ونلعب الكرة حتى يضرب الجرس مرة أخرى فندخل الفصول. أحببت المدرسة والحوش والعيال؛ أصبحت أصحو وحدي مبكرا، وألبس المريلة وحدي، وأعلق الحقيبة الجلدية على ظهري، وأمشى وحدي في الحواري الضيقة حتى أغادر درب الجماميز وأصل إلى شارع بور سعيد حيث توجد المدرسة، فأدخل الحوش فرحا بزئيط العيال ونداوة الصبح على وجوههم، لا ينغصني سوى مدرس الألعاب الذي لا بد أن يفتش علينا في الطابور ممسكا بالخيزرانة الرفيعة المربربة مثل الكرباج، ولا بد أن يضربنا جميعا لأن أظافرنا طويلة وأيدينا متسخة وأحذيتنا مبرطشة كالحة ومرايلنا مترهلة غبراء ممزقة من الشد والتناحر واللعب الخشن؛ فنولول ثم نصمت في الحال بصرخته نقطع خنسًا. ينتهي مدرس الألعاب من الرواح والمجيء وتطويح الخيزرانة. نردد نشيد «بلادي بلادي» بأصوات مسرعة؛ نحيي العلم؛ نمضي صفوفا إلى الفصول؛ ليبدأ الضرب بحد المسطرة على ظهور الأيدي لأسباب لا تنتهي؛ فإذا ما ضرب جرس الفسحة اندفعنا إلى الحوش كالقرود الهائجة؛ نجيء بالكرة؛ وهات يا لعب. نطت الكرة ذات يوم فوق السور؛ هبطت في حوش المبنى المجاور. اغتظنا؛ صرنا ننظر لبعضنا في حيرة لا ندري ماذا نفعل؛ فلم نكن نعرف أي شيء عن المبنى المجاور الذى لا يفصله عن مدرستنا غير هذا السور؛ فشكل المبنى من الخارج وهو مغلق البوابة على الدوام، ومنظر الحديقة التي تطل أشجارها فوق أسواره، والبوابة الداخلية العالية التي تطل على الحديقة من الداخل؛ كل ذلك كان يجعلنا نظن أن المبنى قصر رجل غني من باشوات زمان. كان لا بد أن نجيء بالكرة. نظر العيال نحوي لأن شوطتي القوية هي التي طيّرت الكرة إلى المبنى المجاور. رفعني العيال على أكتافهم. تسلقت السور؛ رميت بنفسي في حوش المبنى. يا له من منظر جميل كأنه الجنة: الأرض أحواض زهور بينها طرق واسعة منسقة؛ في الوسط نافورة على شكل تمثال لامرأة جميلة تبخ الماء من فمها وأصابعها ورأسها؛ الأشجار تبدو كأن الحلاق نسق لها شعرها. أطفال كثار، صبيان وبنات؛ يشبهون الزهور، كلهم بيض وحمر، شكلهم جميل، شعورهم مسبسبة لامعة، ثيابهم جديدة ملونة بألوان زاهية مفرحة؛ لا يصيحون ولا يتعاركون، يقفون فى مجموعات يتكلمون ويضحكون، كلهم حلوين، كاللعب المعروضة في الفتارين الكبيرة. هى إذن مدرسة كمدرستنا ولها جرس! وقفت تحت الشجرة بين أحواض الزهور مبهوراً أتفرج على العيال وهم يرطنون بكلام لا أفهمه؛ أتطلع إلى الجدران الحمراء كالورد، والأراجيح، والروافع، والخرائط واللوحات الملونة على الحوائط. زعلت من أبي: كيف لم يأت بى إلى هذه المدرسة الجميلة؟! كرهت مدرستنا. قلت لنفسي: لا بد أن أبي لم يعرف هذه المدرسة، وما دمت أنا قد عرفتها فقد اخترتها وسأبقى فيها. صار العيال ينظرون لي بخوف واستغراب ودهشة. ضرب الجرس؛ حتى جرسهم مختلف عن جرسنا إذ يشبه جرس التليفون الحديث. مضى العيال إلى الفصول فمضيت معهم؛ دخلت أول فصل؛ جلست على أول مكتب بجوار ولد قصير طيب لكنه كان يتزحزح بعيدا باشمئزاز، ثم سمعت همسات: المِسْ! المِسْ. ثم دخلت سيدة أنيقة كالخواجات. وقف العيال فوقفت معهم. أشارت بيدها فجلس العيال. شكل المِسْ جميل جدا، ووجهها مبتسم مريح للنفس على عكس مدرسي مدرستنا ذوي الوجوه المتجهمة المكشرة المكلبظة والصوت الخشن. قلت لنفسي: لن أمشي من هذه المدرسة فأنا أحببتها وعيالها وفصولها وحوشها. رائحة العيال كلهم عطرة كرائحة المِسْ. أما أنا فرائحة عرقي الزنخة تطلع من عِبي. لا بد أن المِسْ شمت رائحت ؛ صارت تنظر حواليها وقد اقشعر أنفها. وقع بصرها علي؛ فاتسعت عيناها اتساعا أخافني؛ صارت تقترب مني وهي في غاية من الدهشة والخوف كأنها تقترب من فأر أو ثعبان تسلل إلى الفصل. حدثت ربكة بين العيال كلهم؛ صاروا يشرئبون بأعناقهم ويشيرون إلىّ بأصابع صغيرة بيضاء منغزة. بطرفي أصبعيها أمسكتني المس من كتف المريلة؛ سحبتني خارج المكتب. العيال كلهم يزأطون يرطنون يضحكون، وأنا واقف تحت السبورة تتهدل المريلة على كتفي؛ لا أستطيع الهرب من عيونهم الواسعة الصافية التي تنظر لي باستغراب وفضول تتوقف على وجهي الصدئ وشعري المنكوش ومريلتي الوسخة والبرطوشة المتفتقة عن جورب في لون الأرض. قالت المِسْ: «إيه ده؟! إيه اللي جابك هنا؟! دخلت هنا إزاي؟! هه؟! انطق!! جاي تعمل إيه هنا؟! تعال!!». سحبتني من كتف المريلة بأطراف أصابعها جاعلة بيني وبينها مسافة كبيرة. دفعتني خارج الفصل. نادت: «يا محمود أفندي»؛ جاء أفندي أنظف من مدرسي مدرستنا؛ وقف ينظر لي في اشمئزاز وحيرة. قالت المس: «الولد ده دخل هنا إزاي؟! دي بقت فوضى!! شوف إيه حكايته؟!». أطبق الأفندي على معصمي بقوة؛ سحبني. مشيت تحت ساقيه أرتعش. مررنا على أحواض الزهور، والنافورة. خرجنا من البوابة. مضى بي إلى بوابة مدرستنا؛ طرق عليها بقبضته فى غيظ. ووربت البوابة؛ أطل منها وجه فرّاشنا. «خير يا محمود بك؟!» دفعني محمود بك إلى فتحة البوابة: «شوف البلطجي الصغير ده دخل عندنا إزاي؟! لقيناه قاعد وسط العيال في الفصل! عمل حالة رعب!! لمّوا عيالكم!! ما ينفعش كده!!». أمسكني الفرّاش من قفاي بغلظة: «لا مؤاخذة يا محمود بك! أيوه.. الولد ده تبعنا!!». ثم أغلق البوابة. مضى بي إلى مدرس الألعاب في حجرته الضيقة؛ أخبره بكل كلمة قالها محمود أفندي، وأضاف من عنده بغيظ: «العيال دي لازم تتربى!! حَقَّه كله إلا نط السور! ده اللي كان ناقص!!». أمره مدرس الألعاب أن يأتيه بالفلقة. أمره أن يعلقني فيها. طرحنى الفراش على ظهري، كتَّف ساقىّ ثم أدخلهما في الحبل وكسكر عليهما؛ نادى زميله الصغير؛ أمسك كل منهما بطرف من طرفي الفلقة؛ رفعاها. صارت رأسي واقفة فوق البلاط وساقاي معلقتان في الهواء؛ والخيزرانة تنهال على قدمىَّ كالمطر. النار تسري في جسديى؛ أصرخ؛ أنتفض؛ تكاد رأسي تتفتت. جاء الناظر وبعض المدرسين، سألوا عن السبب: «عمل إيه؟!». قال لاهثاً وهو منهمك فى ضربي: «نط السور على المدرسة الأجنبية عمل حالة ذعر فيها!!». فإذا بهم جميعا يقولون: «عمله سوده! اضربه عشان يحرم! ده يستاهل قطم رقبته!! عيال آخر زمن!!». أفقت من الإغماء فوجدت نفسي في منزلنا والمياه تغرق رأسي ورائحة النوشادر في خياشيمي؛ وأبي ينظر لي في غيظ ودهشة قائلا:ً «تستاهل! أصل أنا ما عرفتش أربيك..!!».