ذكرنا في خاتمة المقال الثاني أن الغرب عرف الدولة الدينية منذ أيام الصراع بين الكنيسة والدولة في القرون الوسطى وأوضحنا الفرق الكبير بين مفاهيم الدولة الدينية في الديانة المسيحية المحرفة الباطل، ومفهوم الدولة الدينية التي تسندها قواعد ويشدد بنيانها في المنهج العلماء والأئمة والفقهاء المسلمين. ونؤكد هنا حقيقة حول مفهوم المصطلح للدولة الدينية في الغرب الذي بنى على أساس مفهوم الغرب الغرب وخشيته من سيطرة الكنيسة وسطوتها على حركة الدولة وسياساتها العامة، مما أعطى رجال الدين المسيحي الحق الإلهي في التدخل المباشر في شؤون الدولة، الأمر الذي يتنافى تماما مع رسالة المسجد في الإسلام، أن المسجد في الإسلام يخطط للنهضة الحضارية الشاملة في نواحي اجتماعية وتربوية واقتصادية وفكرية وثقافية ونفسية وروحية ويسمو بالعلاقات الإنسانية في إطارها بصورة إرشادية وعظيمة وتعليمية سلسة تزجى إلى الأفئدة والفطرة في غير عنف أو إكراه أو أي نوع من المحاولة للإيقاع بين النقل والعقل، مع احترام الذات الإنسانية وتحفيزها على البناء والنهوض الذي تقوم عليه الآمال في الدنيا والآخرة. والمسجد بهذا يعد أتباعه ويؤهلهم وفيهم رجال المستقبل وبناة الأجيال وسعاة الحق وقادة الأمة وربانوها مزودون بالعلم والمعرفة والتزكية الروحية والرباط الاجتماعي والإخاء العقدي والتصور الصالح للحياة والإنسان والكون لأجل إصلاح المجتمع والدولة ويعمل على إزالة الفواصل والفوارق الجهوية والعرقية والأثنية والثقافية، وتوجيهها الوجهة المعتدلة التي جاء بها الإسلام وأقرها على نحو يؤكد قدرة الخالق وإبداعه في الخلق على ألوان وأشكال وصفات ولغات متباينة (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة) فلا نزعة عند المسلم الحقيقي نحو الجهة والقبيلة والعرق بقصد الاستعلاء والتميز على آخر كما هو حال الألمان أن الرجل الأسود خلق لخدمة الرجل الأبيض.. وكما فعل الأمريكان حين عمدوا إلى إبادة الهنود الحمر السكان الأصليين لأمريكا نتيجة دوافع عنصرية وهذا هو تاريخ أمريكا الحديثة مكتوب بدماء الأبرياء على صفحات سوّد فصوله القهر والجبروت والاستعلاء والظلم وإثارة الفوضى وقد غرها تقدمها المادي وتناست أن الأمم إنما يقاس تقدمها الحضاري بقيم العدالة والحرية وحفظ حقوق الإنسان وكرامته.. ولكن هل يحق لأمريكا أن تتحدث عن حقوق الإنسان والديمقراطية والسلام؟، إن أمريكا لم تبلغ ذلك إنه في قرن الجوزاء. وعلى هذا النحو يجري ظلم الإنسان وانتهاك حرياته الشخصية كما جرى في فرنسا حيث منعت حجاب المرأة المسلمة وضاقت سويسراببضع مآذن في وسط مئات الكنائس وهتافات عنصرية طائشة ضد المسلمين في الدنمارك وقس عليها مواقف مشابهة في دول غربية مسيحية أخرى.. ثم بعد ذلك ومن لأمرهم يحدثوننا عن الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية. إن تربية الساسة في عالمنا العربي والإسلامي على التربية الإسلامية الصحيحة يقوى فيهم أهمية الولاء للدين وحده دون سواه.. وبعدها قيم السياسة وسلوكها يخضع للأخلاق وتعاليم الدين وإدراك شر الآخر (الكافر) المخادع ليواجه بالأسلحة المناسبة لكل زمان ومكان، ولكل قوم حسب ما يقرر. أن قادة الفكر والسياسة في بلادنا الإسلامية والعربية كثير منهم علمانيون وماسونيون وعملاء للغرب الكافر المخادع.. يدخلون إلى ساحة الجماهير وهم يحملون شعار مشبع بروح الدين يهتفون بحناجر غليظة.. لكن سرعان ما ينقلبون وينكشف قصدهم الخبيث. حين جاء آية الله - كما يقولون افتراء - الخميني بما أطلق عليها الثورة الإسلامية في إيران قال (إنها ثورة العقيدة والرسالة) وهو ما عرف بعد ذلك بمصطلح تصدير الثورة.. واعتبرت أمريكا عند قائد الثورة واتباعه الشيطان الأكبر.. ولكن بما نفسر تصريح وزير الدفاع الأمريكي الأسبق رامسفلد «لولا تعاون إيران ودعمها لما تمكنا من غزو أفغانستان ودخول العراق». وحسن الترابي قائد الحركة الإسلامية السودانية منذ انقلابه على الإسلاميين الحقيقيين في ستينيات القرن الماضي بمخطط رسم له في السربون قاد الحركة الإسلامية إلى جحر ضب اليهود والنصاري وإلى الفرقة التشرذم والتنازع والشقاق بل حتى إلى الحرب والاقتتال بلغت نهايته أن انتهت الحركة الإسلامية في السودان إلى رافدين ضعيفين أحدهما غيّب العقل واتبع هواء زعيمه وإن تزندق ونقص عرى الإسلام عروة عروة وطعن في أصول العقائد فأنكر نزول عيسى والجنة والحور العين وقال بإمامة المرأة.. وآخر استجاب لتيار العلمانيين والشيوعيين المندسين فيه.. مقدمة ذلك له أن الترابي كان لا يعير منهج التربية الإسلامية اهتماماً خلافاً لما عهد لحركات إسلامية أخرى في بلدان أخرى.. وكان يقول بدهاء ماكر إن الحركة والجهاد يمكن أن يحدث دون تربية ويستشهد بأن بعض الصحابة لم يركعوا ولم يسجدوا سجدة واحدة وذهبوا إلى الجهاد فقتلوا فصاروا شهداء.. دون أن تجد هذه الاستشهادات مقاومة ولا تكيفاً لها من حيث إنها ليست القاعدة العامة حتى يقاس عليها.. وإنها نموذج محدود أملته ظروف معينة.. لكن الأصل في الإسلام أن يربي أتباعه وينمي عقولهم ويحصنهم بالأصول والمبادئ الأساسية في الأخلاق والعقيدة وأمهات المفاهيم حتى لا تنال منهم روح التبعية العمياء.. وحتى لا يصطفوا تحت رايات عميّة.. ولا يستظلوا بمظلات جهوية أو عرقية.. وحتى لايمتلؤن بعاطفة دون عقل ناقد بصير.. وحتى يستطيعوا أن يفرقوا بين المصطلح ودلالة المصطلح مضموناً وإشارة وظاهراً ومقتضى. وهكذا تبقى أزمتنا في ساستنا ضعف التربية الإسلامية الأمر الذي أضعف فيهم الولاء للدين فصرنا تبعاً لكل ناعق نصطف ونهتف ونجري دون أن ندري لماذا نجري؟ ولماذا نهتف؟ إن الولاء للدين هو الملاذ الآمن.