ازداد حزناً يوماً بعد يوم «وأنا مولود الجزيرة» جزيرة الخير والبركة، الجزيرة التي تحملت السودان بكامل حدوده قبل أن يبدأ التآكل من أطرافي. أسفي العميق على تاريخ الجزيرة الذي كان مادةً تدرس في الجامعات حتى خارج السودان، مساحة أكثر من «2.000.000» فدان كانت تمتلئ خضرةً ونضارةً، تُدخل الرحمن في قلب كل من قدم إليها من ولايات السودان المختلفة ومن خارجه، ما أن تنتهي دورة محصول حتى تأتي دورة محصول آخر، القطن، الذرة، الفول، جناين الخضروات من بداية الخريف وحتى أكتوبر، لتبدأ دورة القمح هذا إذا أضفنا تجارب الأرز وعباد الشمس ...الخ. تخرج المياه من الترعة الرئيسية بسنار منسابة انسياباً يجمع بين الاندفاع عند مدخلها وتهدأ بالتوزع على الترع الفرعية حتى دورانات «أب عشرينات» و«أب ستات» ثم «الجداول ثم السراب» بحساب وطلبية معروفة متفق عليها ما بين إدارة الري وإدارة المشروع. وتستمر الدورة حتى نهاية الموسم الزراعي. حزني اليوم إلى ما آلت إليه الأحوال والتي نلخصها في.. تُرعٌ صارت مجاري لحفظ المياه بسبب مداومة التعميق مع ارتفاع الأراضي المزروعة بسبب تراكم الطمي، الأمر الذي جعل أمراً معتاداً الآن أن ترى في رأس كل دوران «بداية النمرة» طلمبة لرفع المياه. القنوات امتلأت بحشائش لم نعرف لها من اسم من قبل، طالت واستطالت حتى لا تكاد ترى ما بينها من مياه. المياه إما منعدمة وقت الحاجة وإما يتم ضخها بصورة عشوائية لدرجة قفل الطرق، وقد كانت بالسابق مسؤولية مشتركة بين المزارع وخفير الري والصمد ومفتش الغيط، وأي إخلال يسبب عقاباً لأي طرفٍ خاصة المزارع عبر الطُلبة «وهي لمن ليست لديه معرفة بالمشروع تعني إعادة صيانة الضرر بتكلفة تعادل أضعاف القيمة العادية». وكانت الزراعة في غاية الانضباط من حيث تطبيق الحزم التقنية «مواعيد الزراعة.. الرقاعة.. الحش.. استخدام الأسمدة والمبيدات.. استخدام البذور المحسنة والري المنتظم.. الخ»، وحتى بقايا محصول القطن كنا ونحن أطفال نتابع التخلص منها لدرجة «الضقل» «جذور النبات»، بل وحتى القطن الذي بين ثقوب الأرض، وذلك لضمان عدم انتقال أية أمراض للعام القادم، أما الآن فحدث ولا حرج، تؤكل سيقان القطن في مكانها «بعد الطلق» وهي نهاية جني القطن، ولم نشاهد أي إحراق لسيقان القطن أو كنس لمخلفات المحصول «كركعوب + قطن تالف». وكان طاقم الإشراف الزراعي ابتداءً من مدير المشروع ومساعديه ومديري الأقسام ومفتشي الغيط والصمودة ومجالس الإنتاج والمزارعين يعمل في تناغم واحترام وتقديس للعمل غيطاً ومكاتب إدارية، والعربة المورس كانت منتهى المُنى، ومنازل المفتشين المسقوفة بالمارسلية والسرايات، ويوم الصرف وما أدراك ما يوم الصرف الذي يشبه إلى حد كبير أسواق «أم دورور» في كردفان ودارفور، أما اليوم فلا صرف ولا أسواق. الوضع الآن.. لا مدير ولا خفير بل جاءت مسميات جديدة أقرب لقوات الهدف لا هيبة ولا مسؤولية. المنازل «السرايات ومنازل الخفراء» صارت خرابات سكنها البوم وسرقت أبوابها ونوافذها. ويشكو أهلي لطوب الأرض من شُح المياه وأحياناً تدفقها بدون حساب، لدرجة أنني في إحدى زياراتي لأداء واجب عزاء إلى الغرب من الحصاحيصا، أخذني الشك في إني قد وصلت إلى المحيط الهندي أو الأطلسي لكثرة إحاطة المياه بي وأنا في ظلمة حالكة. واستحقاقات المزارعين على قلتها لا تأتي منتظمة وبحسابات تم تأليفها في مطابخ مالية لقيام مشاركة المزارع المغلوب على أمره الذي فُرضت عليه اتحادات مزارعين محنطة، لدرجة أن أحد رؤوسها كان يُحضر محمولاً على كرسي ورئاسة المشروع لأحد أقاربه «والذي هو أصلاً من خارج الجزيرة»، وحتى بعض الذين سبقوهم كانت بأفواههم جرادة «كما يقول أهلنا بدارفور» وكأن حواء الجزيرة قد عقمت إلا من هؤلاء. انتهى مظهر الخدمات الاجتماعية التي كانت تقدم للمزارعين مقتطعةً ميزانياتها من حُر مالهم ومن عائد الأقطان، آبار المياه المروحية، إلى الطلمبات أو المرشحات، تعليم الكبار، الإرشاد النسوي، الدعم للأندية الرياضية لدرجة أن تحكيم منافسات التفاتيش والأقسام كانت تدار بواسطة حكام دوليين أمثال المرحوم عابدين عبد الرحمن «عابدين جلد» وآخرين. تزحيف الطرق داخل المشروع وتسوية جنبات الترع الرئيسية لفصل الخريف (Scaps ) والآن.. الحال يرثى لها.. مطبات الخريف تنتظر التسوية بمياه الخريف القادم، وحتى الطرق التي يقال إنه تم تعبيدها فهي مضحكة وأكذوبة لذر الرماد في عيون مستخدميها ومواطني المنطقة. ولأدلل على ذلك أن هنالك ردمية من قرية ود بلال على طريق الأسفلت «مدني الخرطوم» إلى المسلمية صارت من معجزات الدنيا، وأعتبرها فضيحة الولاية، بدءاً من السيد الوالي بمدني والأخ معتمد الحصاحيصا اللذين أكدا لي بما لا يدع مجالاً للشك أن الأول مسؤول مدينة ود مدني والآخر لمدينة الحصاحيصا، ولا أعتقد أنه قد داعب خيالهما مرة تفقد مناطق مثل: «سعد الله، أبو قدوم، شاع الدين، التبوب، أم دوينة، هزاوي، ود كرار، أم عود، نجرو، فج الحلا، 22 أم عود والطليح الخوالدة». ومن هنا أناشد الأخ الكريم المهندس/ عبد الوهاب محمد عثمان وزير الطرق والجسور الاتحادي الذي أعلم عن قرب همته ومصداقيته.. أن يكرم أرواح زعماء هذه المنطقة من البرلمانيين الذين كان لهم كبير الأثر في القرار الاتحادي طيبي الذكر.. المراحيم/ أبو اليسر مدني العرضي، أحمد يوسف علقم، حسن عبد الجليل. وأن يجعل زكاة خدمات وزارته التي وصلت حتى الخط الدائري لكردفان والقضارف ودوكة والقلابات والدمازين والكرمك، تمتد لمسافة لا تتعدى العشرة كيلومترات «ود بلال المسلمية»، وأنا واثق من دعم سيادتكم وأبشر أهلي بمنطقة وحدة المسلمية مقدماً بالاستجابة. أرجو أن أذكر أخي والي ولاية الجزيرة بأن مثل هذه المنطقة أولى من غيرها «خارج الولاية» بالدعم والخدمات، وأن أذكر الأخ معتمد الحصاحيصا بأن المناطق التي ذكرتها آنفاً جزء من مسؤوليته، وأنه معين لمنطقة الحصاحيصا بأريافها من الطليح الخوالدة وحتى منطقة الرِبع وأبو قوتة، وألا يتخيل «كما فعل سابقوه» أن مهمته توصيل الطريق المسفلت من الطريق القومي حتى مكتب سيادته. أين الزيارات الميدانية لمعرفة حال المواطن المسكين والتواصل مع قيادات شعبية وتنفيذية خدمت الوطن بمواطن ومواقع لا تخطر ببالهم؟! أما القيادات السياسية الأخرى فهي تظهر فقط خلال مواسم الانتخابات ثم تذهب في بيات شتوي، لذلك أذكر بأن عهد البصم بالأصابع في تبعية عمياء قد ولى، ولن نقدم من الآن وصاعداً إلا من يخاف الله فينا ويكون بيننا في أفراحنا وأتراحنا وخدماتنا. موضوعي في الأساس.. مشروع الجزيرة الذي تُرِك فينا شامةً وهامة، وصار الآن نسياً منسياً بفعل فاعل.. نسأل الله أن يكرمنا بفاعلين يخافون الله ويجلسون لأهلنا الغلابى وهم أهل الرأي وأهل البصيرة، ودون تحيز «أنا فخورٌ جداً وأتشرف بذلك»، منهم العلماء والخبراء والمفكرون والأدباء، ونحن نمثل السودان المصغر بكل سحناته وقبائله وثقافاته، ونتقبل الداخل إلينا لدرجة الذوبان في الكيان الكبير، وأتحدى أن تجد منطقة في السودان يصل فيها الفرد إلى الثلاثين أو الأربعين من العمر ولا يتحدث عن قبيلة، لأننا صرنا قبيلة الجزيرة. والله من وراء القصد. الطيب عبد الحميد محمود مواطن قرية التبوب وحدة المسلمية محلية الحصاحيصا