ولَّى عن دنيانا أخيرًا عالم مجاهد مجالد من كبار علماء الإسلام في هذا العصر، هو سماحة الشيخ الإمام بكر بن عبد الله أبو زيد، رحمه الله، صاحب المواقف العلمية، والفكرية، والدعوية المتزنة، المتئدة، وصاحب التلاميذ الكثر الأفاضل. ولِي الشيخ الإمام بكر بن عبد الله أبو زيد، رحمه الله، مناصب القضاء، والإمامة، والفتيا، والتدريس، والخطابة، وانشغل بفقه النوازل المستجدة. وظلت الكتابة في مسائل الاجتهاد هواه الأثير. وفي هذا المجال خلف إنتاجًا علميًا غزيرًا، لعل أهمه كتبه في طرق الإنجاب في الطب الحديث وحكمها الشرعي، والإنعاش وحقيقة الوفاة بين الفقهاء والأطباء، وبطاقة الائتمان: حقيقتها البنكية التجارية وأحكامها الشرعية، والمثامنة في العقار ونزع الملكية للمصلحة العامة، وحكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية. وسجل في فقه الدعوة كتبًا عميقة مخلصة شديدة التأثير نذكر منها: تحريف النصوص من مأخذ أهل الأهواء في الاستدلال، ودرء الفتنة عن أهل السنة، وهجر المبتدع، وبراءة أهل السنة من الوقيعة في علماء الأمة، وتصنيف الناس بين الظن واليقين. وهذا الكتاب الأخير هو خير ما يمثل هذه الطائفة من الكتب الدعوية المعتدلة القيمة، وهو كتاب في آية في الإنصاف استند فيه العالم إلى خبرته في القضاء فجاء بخير إرشاد إلى جمهرة الدعاة. ولذا نقوم بعرض أهم مفاصله على السادة القراء. إحياء فقه الدعوة لم يكن كتاب «تصنيف الناس بين الظن واليقين» مجرد تجميع وشرح وتعليق على النصوص وكلام العلماء والوعاظ والمربين السابقين. وانما كرِّس بكامله لبحث وتشخيص ظاهرة مرضية تنخر في جسم الدعوة وتقديم وصفة علاجية ناجزة لها وهي ظاهرة تصنيف الناس بين الظن واليقين. والغالب على ذلك التصنيف دائمًا هو الظن ومحض الظن. وهو ما ركز المؤلف على تشخيصه وعلاجه. وهذا ما أفصح عنه منذ البدء غلاف الكتاب، إذ أعطى كلمة الظن لونًا مختلفًا للون الذي كُتبت به بقية كلمات العنوان. تشخيص الداء: وفي بحثه الاستقصائي عن جذور تلك الظاهرة المرضية عقد المؤلف عدة فصول عن وفادة التصنيف، ودوافع تلك الظاهرة، وسندها والانشقاق بها. وانتهى أن لها أسبابًا عديدة منها شهوة تنقيص الآخرين وهي شهوة خفية كامنة في أعماق بعض الناقصين، تدعوهم لتعقب الناس في عقائدهم ونياتهم وسلوكياتهم، وتصنيفهم بلا بينة، فهذا أشعري، وهذا طرقي، وهذا متزمت إلخ ذلك.. وهذا متملق وهذا متستر، وهذا متطلع، ونحو ذلك.. وهذا من علماء السلطان، وهذا غير عامل بعلمه، وهذا ابنه فاسد وزوجه غير صالحة وسوى ذلك من التهم الغليظة التي لا يتورَّع المتنقصون عن إطلاقها على عواهنها. وإن تورَّعوا عن الجرح بها بالتعبير الصراح أحيانًا لجأوا إلى: طريق الجرح بالإشارة أو الحركة بما يكون أخبث، وأكثر إقذاعًا مثل تحريك الرأس، وتعويج الفم، وصرفه، والتفاته، وتجعيد الجبين، وتكليح الوجه، والتغير والتضجر، أو يسأل عنه فيشير إلى فمه، أو لسانه معبرًا على أنه: كذاب أو بذيء! ومن تلك الدوافع رفع النفس، فبعض الناس لا يطيب له رفع نفسه إلا بالحط من الآخرين. ومن تلك الدوافع دافع المجاملة، فمن الناس من يجرح العلماء ابتغاء ارضاء السامعين الذين يحبون هذا الضرب من ضروب الاغتياب. ومن تلك الدوافع التآمر: ويجري ذلك بواسطة سفيه يسافه عن غيره، فهو مجرد أداة لا غير، ومن تلك الدوافع كراهية بعض فساق الناس لأهل الفضل القائمين بأمر الدين، وفي هذه الشاكلة قال الله تعالى: «إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا». الحج: 72. ومن تلك الدوافع الهوى الحزبي والمذهبي، فالبعض لا يكاد يطيق ولا يسيغ وجود أحد من أهل الحق والفضل خارج تكتله الحزبي المذهبي، ولذلك يحاول ما استطاع هدم كل بناء قام خارج حدود إطار ضيق الحظيرة. ومن تلك الدوافع انفعالات النفس التي تدعو للتنقيب عن العثرات مهما كانت طفيفة فأحيانًا يكون كل ما جرحوا به العالم أنهم سمعوه يترحم على فلان، وهو من الفرقة الفلانية؟ فانظر كيف يتحجرون رحمة الله، ويقعون في أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة! ومن تلك الدوافع الوساوس المرضية التي قد يحسبها البعض «زيادة في التوقي والتورع» وهي ليست سوى داء عضال يدعوهم لإكثار الأسئلة عن فلان وفلان ثم يتنزل بهم إلى الوقوع فيهم ونهش سمعتهم وتقويض أسنادهم. وفي أمثال هؤلاء المهووسين يقول ابن القيم رحمه الله: ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر المحرم، وغير ذلك ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين، والزهد، والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقى لها بالاً، ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد ما بين المشرق والمغرب. وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات لا يبالي ما يقول. ومن تلك الدوافع ما يتأتى من الحسد والبغي والغيرة، فمهما يكن في أهل العلم من خير وفضل فإن بعضهم لا يخلو من تلك الدوافع الوخيمة. ولذا قال حبر الأمة عبدالله بن عباس في وصيته لطلاب العلم: خذوا العلم حيث وجدتم، ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض، فإنهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة!