لا أظن أن أكثر قيادات المؤتمر الوطني تفاؤلاً كان يتوقع أن تتداعى أكلة الأحزاب إلى قصعة المؤتمر الوطني بهذا التهافت والتزاحم، وكثير منهم كانوا يعافون ما في هذه القصعة إلى وقت قريب. ولا بد أن قادة المؤتمر الوطني قد صعقتهم المفاجأة من هذا الكم القياسي من الأحزاب التي ركبت مع المؤتمر الوطني في حكومته فرحين بمقعدهم في معيته وجواره. وحتى الثلاثة الذين خُلّفوا وهم الشعبي والشعبية «الأصل» والشيوعي ربما ستضيق ببعض قياداتهم الأرض بما رحبت، وتضيق عليهم أنفسهم وتأكلهم الحسرة على فوات فرصة الركوب على «هايس» الحكومة سعة «14» راكباً بعد أن تغلق الحكومة باب المشاركة وتضع ديباجة مكتوب عليها «كامل العدد». ولقد فجر الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل مفاجأة من العيار الثقيل في الندوة المفتوحة التي نظمتها حركة الطلاب الإسلاميين الوطنيين بجامعة النيلين الأربعاء الماضي، حينما قال إن حزب الأمة القومي هو من رشح نجل رئيسه الصادق المهدي العقيد عبد الرحمن ليكون مساعداً لرئيس الجمهورية. وبهذا يكون حزب الأمة القومي قد كذب على الشعب السوداني بنفيه المتواتر والمغلظ بأن العقيد عبد الرحمن لا يمثل الحزب لا من قريب ولا من بعيد، و قبل الإعلان عن تعيينه كان الحزب قد نفى أية نية للسيد المستشار في المشاركة. وجملة هذه المواقف من حزب الأمة القومي لها معنى واحد فقط، وهو أن مشاركة الحزب لم تأتِ على أساس برنامج وطني ولا يحزنون، بل أراد الحزب أن يصنع المستحيل بأن يأكل الكيكة ويحتفظ بها في نفس الوقت، وأن يضرب عصفورين بحجر واحد، فيقف في صف المعارضة وفي نفس الوقت يجلس على كرسي الحكم، وأن تكون مشاركته في الحكومة مشاركة أشبه بالزواج العرفي بالوجوب والقبول فقط بدون ولي وبلا شهود وبلا إشهار وبلا وثيقة رسمية، وبعيداً عن سمع المعارضة وبصرها. ولكن وقبل انقضاء أيام قليلة من شهر العسل، انكشف المستور وفشى السر وعم القرى والحضر، و ليس أمام الحزب بعد الآن إلا أن «يركِز» ويقنن وضعه بعقد جديد، كما فعل الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، وإن كانت مشاركته تمت بالمقلوب حيث تم تعيين نجل زعيم الحزب قبل التوقيع على اتفاق الشراكة بينه وبين المؤتمر الوطني، وببركة «أبو هاشم» جرّت عربة الحزب الحصان وراءها، ورغم ذلك يحمد للاتحادي الأصل أنه أشهد الشعب السوداني على مشاركته في الحكومة بعقد مشروط رغم ما ترتب على ذلك من زلزال داخل الحزب لن تنتهي ارتداداته بسهولة، أو «بأخوي وأخوك» ولكن الحزب ضمِن على الأقل ألا يضحك عليه نديده حزب الأمة، «أب سِنّة» فللاتحادي «سِنّتين»!! وورطة المؤتمر الوطني التي قد يجد نفسه فيها بعد حين، هي أن يكتشف أن نعمة المشاركة من هذا العدد الكبير من الأحزاب في حكومته، ربما ستتحول إلى نقمة، ليس بسبب مشقة إدارة تناقضات «لحم الرأس» هذا، فالمؤتمر الوطني شديد البراعة في إدارة التناقضات والأزمات ولن يعيى في ذلك أبداً ولا بسبب أن الحزب سيجد نفسه «شايلة الشيلة كلها» لوحده، خاصة أن البعض من ممثلي الأحزاب المشاركة لا يفك الخط في جغرافيا السودان ولا يكاد يفرق بين النيلين الأبيض والأزرق، ولا بين شمال كردفان وجنوبها، ولا بين أمبدة والحاج يوسف أو الأزهري وود البخيت. النقمة ستكون بسبب أن البعض من المشاركين يريدون أن يأمنوا الحكومة ويأمنوا قومهم في المعارضة، وهؤلاء في منزلة بين المنزلتين يتنازعهم الخوف والرجاء، الخوف من تهديدات المعارضة بإسقاط النظام مما يجعلهم كمن صام وأفطر على بصلة إذا ما كان للمعارضة «فتحٌ» ولسان حالهم يقول يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً، والرجاء والطمع في نعيم السلطة وجاهها، فيكونون بأجسادهم مع الحكومة وبميلهم القلبي مع المعارضة، يصلون خلف البشير ولكنهم يرنون بأبصارهم تلقاء مائدة المعارضة، مما يجعل احتمال نزولهم في منتصف الطريق احتمالا راجحاً. وربما يكتشف المؤتمر الوطني لاحقاً أن لبعض هذه الأحزاب المشاركة دوراً تريد القيام به يماثل دور حصان طروادة، أو هو ربما قد اكتشف هذا الأمر فأعد للأمر عدته، فجاء بأولي العزم من وزرائه وكوادره المحترفين والمتمرسين على العمل في مثل هذه الظروف شديدة الدقة، ولعل هذا هو التفسير الأقرب إلى الواقع لخلف المؤتمر الوطني وعده بتشكيل حكومة جديدة تعكس تحولاً كبيراً في رؤى الحزب في ما يتعلق بإدارة الدولة، وأن الشباب سينالون الحظ الأوفر في التشكيلة، وأن وجوهاً شابة جديدة ستحل محل وجوه قديمة مسنة حتى تلهف الناس إلى هذه التشكيلة من كثرة التلميحات والتصريحات التي تواترت في هذا الشأن. فهل دفع هذا الاكتشاف المؤتمر الوطني إلى تغيير خطته في آخر لحظة بالخطة «ب» بإبقائه على محاربيه القدامى في خنادقهم في وضع الاستعداد لهذا السيناريو الذي أتت به إشارات وتلميحات في بعض «فلتات» محامي الشعبي كمال عمر. وأياً كان الأمر فإن أمام الحكومة الجديدة ملفين في غاية الأهمية يمثلان التحدي الأكبر لها والشفرة التي ستمكنها من الاستمرار بسلام وبسند شعبي واسع فيما لو استطاعت معالجتهما بحنكة، الملف الأول وهو الأهم هو الملف الاقتصادي وصورته المباشرة في الحالة المعيشية للمواطنين، فإذا استمرت الضائقة المعيشية في استحكام حلقاتها يوماً بعد يوم، فإن ذلك حتماً ستكون له نتائج وتداعيات كارثية غير محمودة، فخروج الجماهير إلى الشارع وكما أصبح واضحاً بالتجربة ليس في يد أحزاب المعارضة الضعيفة، ولن يكون هذا الخروج بسبب البحث عن الديمقراطية ومشتقاتها، فهذا في حكم الترف في هذا التوقيت، وإنما ما يخرج الناس هو شظف العيش وغلاء الأسعار والجوع الكافر، ويوم أن تخرج الجماهير لا ينفع حكومة إصلاحها ما لم تكن قد أصلحت من قبل أو كسبت في إصلاحها خيراً، أما الملف الثاني فهو الملف الأمني وحروب الوكالة التي تدور في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور التي تقوم بها نيابة عن دولة جنوب السودان حركات التمرد في هذه المناطق، وميزان القوة على الأرض في هذا الملف في الوقت الراهن في صالح الحكومة التي استطاعت أن تمتلك زمام المبادرة فيه، وأن تلحق الهزيمة بالتمرد، وليس أمامها من بد إلا المحافظة على هذا الوضع مهما كلفها ذلك، ونهمس جهراً في أذن الحكومة وهي تدير هذا الملف، فنقول لن ينصلح حالك إلا بما صلح به أولك .. فأعيدوها سيرتها الأولى.