جفّ الدمع المستخفي في أغوار الأجفان، وصار الناس كأحطاب محترقاتٍ، ولم تُنضج النار ذؤابات ذلك الحزن العميق، الذي يضرب بسياطه جدران الأفئدة الكسيرة التي تقف على جراحها تئن.. وترن.. وتحن..!! ها هي مدن الولايات البعيدة، تطأطيء رؤوسها، تخفي شوارد أعيُنها النُّجل، وهي تلوذ بذكرى زمن جميل مضى دون أن تُلقي عليه الجوازمُ، كما يقول المتنبي.. سرقت من هذه المدن نضارتها ووهجها وبريقها، فأين في عيونها ذيّاك البريق؟!!؟ أضحت بعض المدن، مجرد ذكريات وأطلال وأشباح مدن ..! تنام على وسائد النسيان، ويطفر دمعها السكوب تحاكي المطر، بعد أن انفض السامر وخفت الشعاع وضاع العطر والطِّيْب وراء الظلام العتيد المخادع..! وأكثر إيلاماً أن مدننا وريفنا يموت ويفنى ويضمر ويشيخ، ونحن نزدرد الطعم اللئيم الذي زرعته في قلوبنا هذه المدارات اللولبية الحلزونية الماكرة في عاصمة البلاد، التي ابتلعت كل شيء..!! «ب» هل رأى أحدٌ من الناس، وجوه المدن الزواهر كيف صارت وإلى أين تتجه..؟ وكيف تذبل؟ من رأى ارتجافات الذهول في كوستي، وارتعاشات الأفول في النهود، وانحسارات الجمال في الفاشر، وانكسارات النشيد في الفولة، واعتصارات الحنين في الدويم وانتحابات الشجن في سنار وصوت الوجيب في كسلا وأغاني النحيب في عطبرة!!؟ من أبصر منكم هذه الأزاهر يغادرها الندى، وتشحب كالنار التي حاصرها الرماد، ويحتويها التيه كنهر أعمى ضل طريقه في الرمال..!! تكاد في هذه المدن تلمس تجاعيد الأرض والليل والأمسيات والسأم في جفون الصبح..!! تكاد ترى الألم القاتل يومض في القلب والنجوم والتلال والأحلام والأغنيات..! وتكاد تلمح هذه المدن تجلس القرفصاء على قارعة الطرق، كأنما داهمها خريفُ عمرٍ قاسٍ كصخرة صماء، أو تخشى على نفسها..ألسنة الحريق.!! «ت» هناك حالة من الضجر المُميت.. تلف مدن الولايات وحواضر الأقاليم، ونجيمات الريف.. لقد هجرها الناس وفقدت فلذات أكبادها، والسبب هو المركزية الممضة، الفجّة، المتوحشة، المسعورة، مذ عهد الاستقلال، تركز كل شيء.. هنا.. التعليم والصحة والإعلام والفنون وصناعة الحياة، كل الخدمات وسبل العيش وفتنة الدنيا.. ومع مرور الحقب والسنوات ظلت الخرطوم تمتص رحيق الأقاليم والولايات، من جاء للتعليم لم يرجع، ومن أتى للعمل لا يؤوب، ومن رحل لا يعود، كل هؤلاء دخلوا متاهة العاصمة، وجروا في شرايينها حتى صاروا جزءاً من صفائحها الدموية وبلازماها وخلاياها وخطاياها أحياناً.. تركوا وراءهم مدنهم وبيوتهم وأهليهم.. ولم يلبث هؤلاء الباقون أن لحقوا بمن سبقهم، وتسرّب الجميع كالماء من بين فروج الأصابع.. وصارت مدننا وأريافنا مجرد ذكريات جميلة وأطلالاً تئن فيها الرياح. «ث» رأينا النهود، قبل مدة قصيرة، لم تعد تلك المدينة الساحرة التي تنبض بالحياة.. ذهب عنها سحر ذاك العهد البديع، غادرتها الأسر والأسماء المعروفة ووجوهها ورموزها، فإذا تجوّلت في السوق لا تجد مكتبة بيلو، ولا ترى أنوار دار الثقافة الإسلامية ولا تشاهد في السوق «الحَمَرِيّات» بضفائرهن التي تشبه ذؤابات النخيل يبعن قوارير السمن والصحو والصفو في ساحات السوق، ولا ترى حركة اللواري القديمة القادمة من الفاشر والأضيّة وبابنوسة ونيالا والضعين والأبيض وود بندا وأبي زبد والجبال في اتجاه الجنوب الشرقي وأعالي الصحارى في الشمال. وذهبت عن المدينة رائحة العطر القديم، روعة الشعر ومنتدياته والليالي الثقافية والأدبية وكبار الشعراء.. وخفت نبضُ الحياة القديم.. إذا عرَّجت على الفولة، فقد تسمع صدىً لقطار طويل متمهِّل أو مسافر عجول.. والمسيرية الزرق في طرقات المدينة وأباطح ريفها كأنهم ملكوا الدنيا بما فيها وهم على خيولهم المطهَّمة تناطح حرابُهم كبد السماء.. ذبُلت المدينة التي كانت عاصمة غرب كردفان، وتحولت إلى ركن التاريخ القصي تجتر صورتها القديمة وتبكي كالنساء على كل شيء لم يحافظ عليه الرجال. «ج» أما كوستي، فلم يتبقَّ منها من زهوها ووجهها الربيعي القديم إلا أطلال محطة السكة الحديد والنقل النهري، ورائحة الأسماك وموج النيل الأبيض يتكسر خجولاً على ضفاف بالية.. ذهب لون السماء الأزرق الجميل وكست الأحياء أحزانٌ طوال.. السوق خالٍ وباهت وفارغ، وكل شيء يكاد يفرغ لتصديق قصيدة د. محمد الواثق الحارقة التي هجا فيها المدينة على طريقته تلك.. لولا أبوعبيدة العراقي معتمدها المجتهد لتحولت كوستي لقرية كبيرة وعلا الشيب رأسها المهيب. أما سنار، فلم يعد هناك حتى «من لهم آذان تسمع رنة قرش في المريخ..» كما يقول الشاعر محمد المكي إبراهيم في رائعته «قطار الغرب».. لقد أصبحت سنار مسحوقة تحت وطأة الفقر، انحسرت التجارة وذهبت أو كادت «رابطة سنار الأدبية» إلى غياهب السكون وغيابت الجُب..!! وتثاقلت أعين المدينة الجميلة وعلا مفرقيها الشيبُ والبكاءُ والنشيج.. رغم الخزّان المارد والذهب المندوف.. أما فاشر السلطان، فقد صارت مدينة بلا قلب وبلا ملامح، لقد حولتها الحرب الطويلة لثكنة عسكرية، ولطَّخها النزوح كالساقطة في الوحل، وجعلتها الحركات المتمردة وقواتُها جسداً يرتجف ويرتعش مع كل طلقة طائشة وكل «مكنة تكاكي ومدفع يخر».. ورحل كل رمز ووجه قديم وأصبحت البيوت العتيقة والعريقة مأوىً ومسكنًا للمنظمات والأوربيين والنصارى الجدد، وروح علي دينار تئنُّ وتبكي ولا عزاء للملك رحمة الله محمود.! «ح» حتى القطار سئم القحط ورهق الحياة في عطبرة، فوليدة السكة الحديد، ممزقة الفؤاد والجنان، يلفُّها صمتٌ عجيب منذ أن صمتت جَلَبَة الوِرش، وحركةُ المسافرين والمودعين لقطارات بورتسودان، حلفا، وكريمة، في محطة عطبرة وصياح صاحب بوفيه محطة سكة حديد عطبرة «باسطتنا بالسمنة وكدة..!!» وتمتمته اللذيذة..!! ولم تعد هناك نداوة الأندية الثقافية والرياضية وصوت أب داؤود والعطبراوي وقيقم وتيمان عطبرة.. لقد «فات القطار ومرّ» وماتت السكة الحديد.. ذهب عن عطبرة كل شيء.. وراح!! وفي الدويم عروس النيل الأبيض وقلعة التعليم، لم تزل طازجة ذكريات بخت الرضا ومندور المهدي وعبد الرحمن علي طه والدويم الريفية والسودان كله الذي كان يتعلم هناك.. لم يبقَ إلا النيل يحاصر المدينة والبنطون الذي ترجّل عن ظهر الماء بعد قيام الكبري الذي كان كالغول والعنقاء والخل الوفي، وكان يذهب ويجيء كالقدر الجميل وغناء العصاري والقماري، وحركة الصيادين و شباكَهم التي تلتقط الأسماك. لم تعد الدويم إلا شظايا من نار الذكرى وشجى وصدى السنين الحاكي.... ولعل صوت الشاعر السوري الكبير محمد الماغوط كان متحشرجا ً حين يقول.. ٭ أيّتها الشواطيء، أريدُ مرساتي أيّتها الصحراءُ أريدُ سرابي أيّتها الغاباتُ أريدُ طُيوري أيُّها الصقيعُ أريدُ جدراني أيُّها الشتاءُ أريدُ سُعالي أيّتها العتباتُ أريدُ جدتي أيّتها العواصفُ أريدُ أشرعتي أيُّها المطربون أريدُ تصفيقي أيّتها المراجيحُ أريدُ أعيادي أيّتها الذاكرةُ الإلكترونية.. أريد أوصافي.. «خ» أما مدينة كسلا فهي بين الظل والنار والحر والقاش تحتفظ بكل جمالها وسحرها، لكن الأغنيات..!! لم يعد هناك أنين للسواقي، وإن بقي الإشراق بعض روح.. كثيرٌ من العبير، قليل من المحبين.. عميقٌ من الجراح.. سحيقٌ من البوح من الصعب أن ترى وجه كسلا دون أن ترى دمعة من التاكا تجري عليه، وآهة من فياح القاش تعبر الفلوات.. معادلة للحزنِ والحلمِ والجمال.. ومقاربة للشمسِ والهمسِ والجلال.. وهي في وهج احتضار عجيب، ترفض أن تحكي وأن تبكي وأن تموت.. وتلك قصة أخرى.. ما بين.